الأخبار الزائفة في زمن الحرب.. سلاح أكثر فتكًا من الرصاص
زينب فرج – في زمن الحروب، لا تقتصر المعارك على ساحات القتال وحدها، بل تمتد إلى العقول. اليوم، لا تدار الحروب فقط بالصواريخ والرصاص، بل أيضًا بالمعلومات، وتحديداً المعلومات المضللة والزائفة. فالحقيقة في هذه المعارك لا تنتصر دائمًا، بل غالبًا ما تطغى عليها ضبابية الأخبار الزائفة التي تنتشر بوتيرة سريعة، مخلّفة وراءها واقعًا مشوشًا وسرديات متناقضة.
الحرب الأخيرة على لبنان لم تكن استثناءً، بل كانت مسرحًا لتضليل إعلامي واسع النطاق، حيث تنافست الأخبار المضلّلة مع الحقائق في معركة شرسة على الرأي العام. عبر منصات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخبارية، وحتى بعض وسائل الإعلام التقليدية، غُمرت الفضاءات الرقمية بسيل من المعلومات المشوهة، ما جعل من الصعب على المتابع العادي التمييز بين الصدق والزيف. لكن كيف تنتشر الأخبار الكاذبة بهذه السرعة؟ ما التحديات التي يواجهها الإعلاميون ومدققي الأخبار؟ وما الأدوات التي تمّ استخدامها لمواجهتها؟
الصحافة الميدانية في مواجهة التضليل
الصحافة الميدانية كانت في قلب هذه المعركة، ففي ظلّ شح المصادر المعهودة في أوقات الحرب وتسارع وتيرة الأحداث وازدحام الأخبار وتدفقها، وفرت الحاجة إلى المعلومة بيئة خصبة لانتشار الأخبار المفبركة أو الزائفة، ما فرض الكثير من التحديات على الصحافيين الميدانيين في محاولة لمواجهتها والتحقق منها في زمن الحرب.
تقول أمال خليل، مراسلة ميدانية لجريدة الأخبار، غطّت أحداث الحرب على الجبهة الجنوبية (القطاع الغربي – الأوسط – الشرقي)، “إن التحدي الأكبر الذي واجهته في نقل الحقيقة وسط طوفان من الأخبار الزائفة، كان سرعة انتشار المعلومات المغلوطة، لا سيما عبر مجموعات الواتساب ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث كان يتم اجتزاء الأخبار أو تحريفها، مما ساهم في حجب الرواية الصحيحة”.
لكن ما ساعد خليل على تجاوز هذه العقبات كان معرفتها العميقة بجغرافية المنطقة، والتي تعود إلى خبرتها الممتدة منذ حرب تموز 2006. هذه المعرفة، إلى جانب علاقاتها القوية مع أهالي المناطق التي تغطيها، مكّنتها من مقاطعة المعلومات والتحقق من صحتها قبل نشرها، مما ساعدها على تقديم رواية دقيقة للأحداث، رغم التشويش الإعلامي الذي حاول فرض سرديات أخرى والإستهداف العدواني الذي حاول إسكات الحقيقة مراراً عبر التعرض لهم بالرصاص والإعتداءات المباشرة.
في سياق متصل، يؤكد الصحافي والمراسل في قناة الميادين حبيب عز الدين، أن المصدر الأهم لأي معلومة هو الميدان، حيث يمكن التحقق المباشر من الأحداث وتأكيد أو نفي أي خبر. ويعتبر أن وتيرة الحرب المتسارعة تجعل الصحافي أمام تحدٍ صعب، بين الحفاظ على دقة المعلومات وبين ضغط السرعة في نشر الأخبار.
ويضيف عز الدين أن أحد أكبر المخاطر يتمثل في التنافس على السبق الصحافي، ما قد يؤدي أحيانًا إلى نشر أخبار غير دقيقة. وبالتالي يؤكد على ضرورة رفض التعامل مع أي معلومة غير رسمية، والإعتماد فقط على المصادر الميدانية الموثوقة، لأن الإعلام في زمن الحرب مسؤولية كبرى، لا مجال فيها للمجازفة بالحقيقة.
جهود التحقق من الأخبار الزائفة
إلى جانب الجهود الميدانية في مواجهة سيل المعلومات المضلّلة، برزت جهود جبّارة من قبل المؤسسات الإعلامية والمبادرات المتخصصة في التدقيق. مؤسسة “مهارات” كانت في طليعة هذه الجهود، حيث عملت على كشف زيف العديد من الأخبار التي تمّ الترويج لها خلال الحرب. لكن مهمة التحقق لم تكن سهلة، إذ يشير الصحافي ومدقق الأخبار بلال ياسين إلى أن أبرز التحديات التي واجهتهم كانت صعوبة الوصول إلى المصادر الموثوقة وغياب الرواية الرسمية.
ويضيف أن الأخبار الزائفة تنتشر بسرعة تفوق بكثير سرعة انتشار التصحيحات، مما يضع المدققين أمام تحدٍّ مضاعف في عصر تهيمن عليه الفوضى الرقمية. ففي حين أن نشر الأكاذيب لا يحتاج سوى إلى تغريدة أو صورة مفبركة، يتطلب دحضها عمليات بحث وتحقيق معمقة، وهو ما يجعل التحدي كبيرًا أمام الصحافيين والمحققين.
وعن الدور الذي لعبه الذكاء الإصطناعي في انتشار الأخبار الزائفة خلال الحرب، تشير الصحافية ومدققة الأخبار في مؤسسة “مهارات” لورا رحال، إلى أن الصور والفيديوهات المزيفة أصبحت أكثر إقناعًا من أي وقت مضى، ما جعل كشف التلاعب الرقمي عملية معقدة.
وأكدت رحال أن مواجهة هذا النوع من الأخبار تطلب جهدًا إضافيًا، حيث لم يعد يكفي التحقق من المصادر التقليدية، بل بات من الضروري تحليل الصور والفيديوهات باستخدام أدوات متخصصة، والتأكد من أصغر وأدق التفاصيل.
“الجديد تدقق”.. جبهة أخرى ضدّ التضليل
في المقابل، برزت فقرة “الجديد تدقق” كمبادرة فعّالة في التصدي للأخبار الزائفة. ويوضح الإعلامي نعيم برجاوي أن هذه الفقرة لعبت دورًا محوريًا في كشف العديد من الإدعاءات الكاذبة التي اجتاحت الفضاء الإعلامي خلال الحرب. بالطبع لم تستطع كشف جميع الأخبار الزائفة لكن على الأقل قامت بكشف خبر واحد منها يومياً.
ويشير برجاوي إلى أن الفقرة لم تكتفِ بالتحقق الإلكتروني، بل اعتمدت على شبكة مراسلين ميدانيين انتشروا في مختلف المناطق، ما أتاح إمكانية التحقق من صحة الأخبار عبر المعاينة المباشرة، إضافة إلى استخدام مواقع متخصصة في كشف التزييف الرقمي، الأمر الذي ساهم في بناء جدار صدّ قوي أمام الأخبار الزائفة.
اليوم، وبعد انقشاع بعض غبار الحرب، تبقى معركة الحقيقة مستمرة. فالأخبار الزائفة لم تعد مجرد انحرافات إعلامية، بل أصبحت أداة في الحروب الحديثة، تُستخدم للتلاعب بالعقول وتوجيه الجماهير. ومع تزايد قدرة التكنولوجيا على تزييف الحقائق، تصبح الحاجة إلى مهارات التحقق أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
في عصر السرعة الرقمية، تبقى الحقيقة أبطأ في الوصول، لكنها تبقى الحقيقة. ورغم كل محاولات التزييف والتشويه، يبقى هناك من يصرّ على رفع رايتها، لتبقى الصحافة الملتزمة هي الحصن الأخير في مواجهة هذا الطوفان من الزيف والتضليل الإعلامي.
تمّ إنتاج هذا التقرير بدعم من الإتحاد الأوروبي ضمن زمالة تأثير النزاعات والحروب على تغطية الصحافة والإعلام ، وهذا المحتوى لا يعكس بالضرورة وجهة نظر الإتحاد الأوروبي.