نحبّ الحياة، ولأجلها نقاوم..بقلم أزهار شريم
أزهار شريم
الموت لا يعني شيئًا، لكن الحياة مع الحرية تعني الكثير..
في كل مرة تتصاعد فيها الأحداث في هذه الحرب، التي نسف فيها الاحتلال جميع الأعراف والقوانين الإنسانية، تنبثق أمامنا ثنائية تطالعنا بها بعض الأصوات، تبدو وكأنها تعكس تعارضًا جوهريًا بين ثقافتين: ثقافة الموت وثقافة الحياة. ولكن لنا أن نتوقف عند هذه المقارنة لحظة، ونتساءل: هل ترتبط المقاومة بثقافة الموت حقًّا؟ أم أنها تعبير عن أعمق حب للحياة، رغبةً في استعادتها كما نراها أو كما نحبّ أن تكون؟
لا أحد يحب الموت بطبيعته، هذه طبيعة البشر. لكن كيف يمكن لنا أن نفهم حياة من يرزح تحت وطأة الاحتلال؟ تلك الحياة التي عايش فيها كلّ أنواع الظلم، ولم يكن بيده أن يختار مصيره، فإمّا الموت أو الخضوع والاستسلام لما يُفرض عليه.
في عمق هذا الصراع، برزت المقاومة في أشكال متعددة، تجاوزت حدود البندقية والسلاح لتلامس جوهر الوجود الإنساني. بالتأكيد، ليست المقاومة مجرّد مواجهة بالسلاح، بل هي منظومة متكاملة من الصمود والإبداع والتمسّك بالهوية. فالعدو لا يواجَه في ميادين القتال فقط، بل في كل ساحةٍ من ساحات الحياة.
ثقافيًا، تمثل الكتابة والفن والشعر أسلحة مقاومة لا تقلّ أهمية عن السلاح التقليدي. كلّ كلمة تكتب، كلّ لوحة ترسم، وكلّ قصيدة تلقى، هي إعلان عن رفض النسيان، وإصرار على الحضور رغم كل محاولات الإلغاء. هذه الأعمال الثقافية تشكّل ذاكرة جماعية تحفظ التاريخ وتنقل القصص من جيل إلى جيل، لتبقى القضية حية في الوجدان، مهما حاول المحتلّ فرض سيطرته. في فلسطين، كانت الكلمة – من أدب المقاومة إلى الأغاني الوطنية – ولا تزال، سلاحًا قويًا وفعّالًا. وإلا لما كان الاحتلال ليغتال ويقتل أبرز الكتّاب والصحافيين من غسّان كنفاني وصولًا إلى صحافيي غزّة وجنوب لبنان اليوم.
أما على المستوى الاقتصادي، فإن المقاطعة تمثل أحد أبرز أشكال المقاومة الحديثة. و هي ليست مجرد فعل اعتراضي، بل تعكس تحررًا من الهيمنة الاقتصادية التي يسعى الاحتلال إلى فرضها. كل قرار بعدم شراء منتج من منتجات العدو هو مساهمة في إضعاف إقتصاده، وتعزيز اقتصاد محلي مستقل. معركة غير تقليدية، لكنها لا تقل أهمية، فالمقاطعة تكسر حلقة الاستغلال وتعزز من قدرة المجتمعات على الاعتماد على ذاتها.
وعن جنوب لبنان، على سبيل المثال، كانت الزراعة ولا تزال، إحدى وسائل المقاومة – كما في فلسطين بطبيعة الحال. الأرض، التي حاول المحتلّ أن ينتزعها، أصبحت رمزًا للصمود، ومع كل موسم حصاد، تُبعث الحياة من جديد. هؤلاء الذين حرثوا الأرض وزرعوا فيها الأمل، قاوموا بأيديهم وعزيمتهم من أجل الوجود.
إن المقاومة الثقافية، والفنية، والاقتصادية، ليست مجرّد وسائل لدعم المقاومة المسلحة، بل هي أساس في معركة الحفاظ على الهوية والوجود. هي تعبير عن حبٍّ عميق للحياة التي يرفض الشعب الفلسطيني والشعوب المقهورة الأخرى أن تُسلب منهم. وإعادة تعريف لثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت التي يحاول العدو أن يفرضها.
بالعودة إلى تاريخ الشعوب التي ناضلت ضد الظلم والاضطهاد، نجد أن المقاومة لم تكن خيارًا بين خيارات متعدّدة، بل كانت السبيل الوحيد للبقاء. من الجزائر إلى فيتنام، ومن جنوب إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، لجأت الشعوب إلى المقاومة المسلحة حين استُنزفت وفشلت كل السبل السلمية.
في فلسطين، منذ فرض نشأة الكيان الصهيوني، لم يجد الشعب الفلسطيني طريقًا لمواجهة هذا الاحتلال الغاشم إلا بالمقاومة بما توفّر. فكلّ حجر يُرمى، وكلّ طفل فلسطيني يولد على أرضه، يكرّس رفض الموت ويعلن الرغبة في الحياة بكرامة وعزّة، حياة تأبى أن تُختزل في مقاييس البقاء البيولوجي فقط.
وليس بعيدًا عن هذه المعركة، نجد القرى الحدودية في جنوب لبنان. تلك القرى التي عانت لسنوات طويلة من الاحتلال الإسرائيلي، وقاومت بعناد وصمود. لم يكن سلاحها فقط البنادق والرصاص، بل كانت الحياة نفسها سلاحًا في وجه المحتل. كانت المقاومة جزءًا من تفاصيل حياتهم اليومية، من الزراعة إلى حفظ الذاكرة الجماعية. وعندما تحررت تلك القرى، لم يكن ذلك انتصارًا للمقاومة المسلحة فحسب، بل كان انتصارًا للحياة التي عاشها أهل الجنوب بكل تفاصيلها الصغيرة، رغم كل التحديات.
إن الحديث عن “ثقافة الحياة” لا يمكن أن يُختزل في مظاهر الفرح والحفلات. الحياة، كما يفهمها من عايش الاحتلال، هي مقاومة الظلم، والتضامن مع الآخرين، والإصرار على العيش بكرامة. ثقافة تعكس الإنسانية في أسمى تجلياتها. أما أن نختصر الحياة في فردانية استهلاكية، فهذا هو الوجه الآخر لعملات الاستعمار والرأسمالية، التي تسعى دومًا لفرض رؤيتها الضيقة للعالم.
في النهاية، المقاومة ليست نقيضًا للحياة، بل هي تأكيد عليها. إنها شكل من أشكال الاستمرارية، هي فعل حبّ للحياة التي تستحق أن تُعاش بكرامة وحرية.
بمعنى آخر؛ إنّ المقاومة، بكل أشكالها، هي شكل من أشكال الحياة، حياة لا تُختزل في مجرّد البقاء، بل تتجلى في الاستمرارية والإبداع والصمود. إنها فعل جماعي، يُعبّر عن روح الإنسانية في أبهى صورها، ويجسّد معنى التضامن الحقيقي. إنها مقاومة تحمل في طياتها رسالة واضحة: إننا نحب الحياة، ولأجلها نقاوم.