بريد القراء

الدكتور عباس وهبي يكتب في وداع الراحل أنور علي حسين الصباح

باسمه تعالى
خطبٌ جلل و مُصابٌ أليم :
وداعاً فقيدنا الغالي النائب والوزير السابق الحاج أنور علي حسين صبّاح :
حينما تسكن الهامة الكبيرة يتلظى التاريخُ ،
و يقشعرّ الزمن ، وتذرف النجومُ دموعها النورانية .
هو رمزٌ سياسيٌّ نضاليٌّ تاريخيٌّ وُلد في نبطية العلماء والشهداء
عام 1933 ، و تعلّم دروسه الإبتدائية في مدينة النبطية ، ثم تخرّج من مدرسة الفنون الأميركية في مدينة صيدا ، و من ثم هاجر الى الولايات المتحدة الأميركية عام 1952 حيث حاز على شهادة الماجستير في الهندسة الميكانيكية من جامعة أوكلاهوما .
دخل المعترك السياسي في أوائل الستينيات حيث ترشح على لائحة دولة الرئيس كامل الأسعد عام 1964 والتي فازت بأكملها .فكان أول دخول له إلى الندوة البرلمانية . ومن ثم فاز على اللائحة نفسها في الدورات الانتخابية التي جرت في عام 1972 و ما تلاها .. لقد خاض الصبّاح في ميدان العمل السياسي لردح طويل من الزمن قدّم خلالها الخدمات الكبيرة للجنوبيين عامة و النباطيين خاصة ، و لا سيما حين عُيّن رئيساً لمجلس الجنوب ، و حين عُيّن وزيراً عام 1972 وزيراً للاقتصاد في حكومة الرئيس صائب سلام ، هذا إلى جانب إهتماماته السياسية ، كما عُيّن عام 1979 وزيراً للموارد الكهربائية والصناعة والنفط ، و بما أنه اختصاصي في الهندسة فقد عمل على إقامة المعامل الكهربائية في كل لبنان و تحديداً عام 1979 ، و عندما كان وزيراً للكهرباء ، كما عمل في هذه المرحلة على مدّ شبكات المياه داخل مدينة النبطية والتي لم يكن قد طرأ عليها أي تعديل منذ مشروع عام 1925 م .كما أنّ كتلته قد استصدرت مرسوماً يقضي بإنشاء الجامعة اللبنانية – الفرع الخامس كليةةالآداب في مدينة النبطية و بحثّ من الصبّاح ، و على أن يكون مركزها مدينة صيدا إستثنائياً إلى حين زوال الأوضاع الأمنية التي كانت سائدة آنذاك .لقد كان للأستاذ أنور مواقفه المميزة الشاجبة لتعرض شعبيته لقمع المكتب الثاني في الستينات ، و رفض الصبّاح أن يُبلل يديه بدماء الحرب الأهلية واعتبر أنها مؤامرة صhيو- أميركية من صنع كيسنجر ضدّ لبنان . كذلك لقد ساهم الصبّاح عبر كتلته إلى استحداث محافظة النبطية ، و ساهم عبرها أيضاً في افتتاح العديد من المدارس في الجنوب و لا سيما مدينة النبطية. و كذلك كان في طليعة الداعين في كتلته إلى تنفيذ مشروع نهر الليطاني على منسوب 800 متر رغم المضايقات الصhيونية والمعارضة الدولية آنذاك . و عُيّن عام 1980 في حكومة شفيق الوزان وزيراً للكهربائية والإقتصاد . لقد دفع أنور الصبّاح ثمن التحولات السياسية والدينية التي جرت في لبنان عامة والجنوب خاصة . لقد استقال عام 1981 لأنّه أصرّ على عودة الدولة من خلال عودة الجيش اللبناني الى الجنوب كي تنتهي الفوضى التي كانت سائدة آنذاك… . شارك في اجتماع الطائف من اجل إنهاء الحرب و ليس اقتناعاً بمضمونه ..
إن الذي منع أنور الصبّاح من العودة إلى البرلمان هو أنور نفسه إذ لم ينحنِ الفارس الصبّاحي للعواصف رافضاً الإنحناء تاركاً للتاريخ الحق بالإنصاف ، لذا فقد اعتكف عام 1992 عن العمل السياسي و أصدر كتاباً بقلم المؤلف ألبرت الخوري بعنوان : ” أنور الصبّاح حفر في التاريخ والذاكرة ” سرد فيه سيرة حياته و سيرته السياسية ونضالاته المعروفة.
أنور الصبّاح رجلُ الوفاء و المواقف الصلبة الذي حمل المسؤولية الوطنية منذ يفاعته، و لم يكلّ و لم يملّ رغم الظروف القاسية التي مرّ بها البلد من حروبٍ أهلية واجتياحات مُعادية ، وتأزماتٍ موزاييكية خانقة لكنّه لم ييأس بل جابه الصعوبات و لم يتخلّ عن مبادئه وقيمه … و موازاةً أنشأ مع والده و إخوته شركة الصبّاح التي تبوّأت عرش الانتاج السنمائي العربي منذ أوائل الخمسينيات .. وفي العام 1962 في القاهرة، أطلق مع إخوته حسين ومحمد علي «الشركة اللبنانية المصرية للإنتاج السينمائي» التي أَنتَجت في مصرخلال أربع سنوات 500 فيلم.
و في العام 1973، أسس في لبنان شركة صبّاح العالمية للفيديو وأسس كذلك «شركة سيدرز آرت» و «شركة صبّاح ميديا» اللتين لا تزالان ناشطتين حتى اليوم .. و ما انفكّ أبناؤه يكملون الدرب بإدارة المنتج الأستاذ صادق و أخوه الأستاذ علي …
إنّه المؤمن الطاهر ، صاحب الأنفة ، و عزة النفس، فرغم مجابهته للمرض العضال لم ييأس، لكنّه رفض الخنوع للمرض بقوله لنجله صادق : خذني إلى بيتي في النبطية حيث تفرحُ روحي ، وحيثُ لا يضنيني مرضٌ و لا سقمٌ و لا ضجر … خذني إلى نبطيتي فهناك يرقد والديّ و أحبتي ، هناك يعلو زئير الأحرار ، وتشمخُ تلة الرويس بصبّاحها بقناديلها بسنديانها… هناك إن نزفَ دمي فسوف تنبتُ زهراتُ العشقِ وتُرفرفُ فراشات الحقول ، هناك مرقدي ، هناك منزلي ، هناك أسمعُ أصوات أبي وأمي وإخوتي ، و كلّ أهلي وجيراني … هناك روحي سترفرفُ كلّ صباحٍ على صوت قرآن الصباح وأصوات المصلين و بركات القداسة الحُسينية العاملية … هناك
قامت الثرى لتحضنَ رجل السياسة و العلم و العنفوان والكرامة ، هناك أوتْ عصافير المساء حزينةً إلى أعشاشها، وازدادت سنابل القمح انحناءً تقديراً لهذه الهامة الكبيرة المتواضعة ، وشتلاتُ التبغ ذرفتْ دمعَ الأُباة ، وأطلقت تحيةً للنسر النباطي العاملي اللبناني العربي.
نعم إننا نجيءُ كالماء ونمضي كالريح …
إلى جنان الخلد. يا أبا صادق ،
وإنّا لله و إنّا إليه راجعون.
د. عباس وهبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى