مهرجان ثقافي حاشد في النبطية تحية إلى حبيب صادق
أقام يقيم المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ وجمعيّة تقدّم المرأة في النبطيّة وجمعيّة التنمية للإنسان والبيئة وجميعة بيت المصور في لبنان ونادي لكلّ الناس، السبت في 19 آب 2023، وفي ذكرى مرور أربعين يوماً على رحيله، مهرجاناً وطنياً ثقافياً تحيّة إلى الأديب الأستاذ حبيب صادق (1931- 2023) الأمين العام للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي رحل بتاريخ الأول من تموز الشهر الفائت، عن عمر حافل بالعطاء الشعريّ والأدبيّ والثقافيّ والإنسانيّ والسياسيّ والاجتماعيّ.
تقدّم الحضور إلى عائلة الراحل حبيب صادق والنائب فراس حمدان وجوه ثقافية وفنية واجتماعية وسياسية وتربوية وصحية.
بعد النشيد الوطني والوقوف “دقيقةِ صمتٍ على روح الفقيد الأديب الأستاذ حبيب صادق” ألقى الإعلامي كامل جابر كلمة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي والجمعيات المشاركة، فقال: سألتُ نبعَ الكلامِ، أماؤُكَ يكفيه؟ قال: لن يفيه..
كان نبعُ اللغة حينما ينطقُ عزيزُنا، يفيضُ على شفتيه، عذْباً، رقراقاً، صادقاً، دمِثاً، مفوَّهاَ، مُنمَّقاً، مُصوّغاً، هادفاً، إنسانيّاً يفيض بالحبّ والإنتماء إلى أدب الكلام، وعزّة الانتساب، إلى الكوكبِ الجنوبيّ، مهدِ الولادةِ والوعيِ والعشقِ والنضالِ، كحيّزٍ أساسٍ من وطنٍ كان يتمنّاهُ على صورة البسالةِ التي جاشَتْ بها نفوسُ أبناءِ الجنوبِ، دفاعاً عن أرضِهِ وعن فلسطين، وقبل هذا أو ذاك، دفاعاً عن لبنانِهم، في مواجهةِ أعتى حروبٍ واعتداءاتٍ وسياساتِ إهمالٍ وتنكيلٍ وحرمانٍ مُمَارسةً من حكّامٍ وسلطاتٍ لم تنمَّ طوالَ عهودِها إلّا عن فسادِها وتمييزهِا وعنصريّتِها وعدمِ جدارتِها في حكمِ البلادِ وإدارتِها.
يا عزيزي، من أينَ أتيتَ بكلِّ هذا الحبِّ كي تنثرَهُ كالنّدى، ليس على ثلّةٍ أو جماعةٍ أو زُمرةٍ، بل على كلِّ من عَرَفتَهُ أو لم تعرفْهُ؟ على الجنوبِ برمّتِهِ، وعلى الوطنِ. كلُّ هذا التفاني فيك ومنك كان يسعدُنا ويظلّلُنا كما نخيلُ البوادي. نستظلُّ بهامتِك السامِقةِ نحو فضاء العطاء. وكنتَ ذاكَ الشلالَ الوطنيَّ الإنسانيَّ المانحَ بلا تردّدٍ، ومن دون تمنين.
لن يكفي نبعُ الكلام لتعدادِ خصائِلِك ومحامِدِك، لكن دعنيَ أقفْ قليلاً أمامَ مكتبةِ إنتاجِك الثقافيَّ ورعايتِك له؛ هذه المكتبةُ العريقةُ التي أصدرَها المجلسُ الثقافيُ للبنان الجنوبي بمعيّتِكَ وتوجِيهِكَ وإصرارِكَ، لم تكنْ عبثيّةً انتقائيّةً، بل واضحةُ الوُجهة والهدفِ: “كلُّ الجهاتِ الجنوبُ”، من بيتِك الثقافيِّ الجنوبيِّ، شرّعتَ بإصرارٍ والتزامٍ جنباتِهِ الأربعَ على الجنوبِ، بلّ شرّعتَ الجنوبَ على مشارقِ الدّنيا ومغاربِها، قبلَ كثيرينَ ومنذ أمدٍ بعيدٍ، كي لا يبقى الجنوبُ يتيماً كما أرادَه البعضُ، وكي لا يترعرعَ عليلاً هزيلاً بلا حضنٍ أو دفء، وكي لا يظلَّ مهمّشاً على قارعةِ الإهتمامِ، متروكاً لمصيرهِ في المقاومةِ، ومواجهةِ العدوانِ، والدفاعِ عن لبنان.
من قال إنّنا قرأنا المقاومةَ في غيرِ كتابِكَ؟ من يتوجّسْ فليعدْ إلى المكتبةِ الموغلةِ في التحقيقِ والتوثيقِ والموضوعاتِ، وقد جعلتَ الجنوبَ من خلالِها كتابَ القراءةِ العربيّةِ الوطنيّةِ، ناهيكَ عن مداميكِ المنابرِ المفتوحةِ على كلِّ مثقّفٍ جنوبيٍّ ووطنيٍّ وعربيٍّ محلّقٍ كان أم على منطلقِ الدربِ، والمعارضِ والمهرجاناتِ، وكان الجنوبُ فعلاً وبفضلِ تفانِيكَ نحوَه وقلقِك عليه، كلَّ الجهاتِ، وصار المجلسُ الثقافيُّ للبنان الجنوبيِّ صوتَ الجنوبِ النابضِ بالحقِّ والمعرفةِ والإنسانيّةِ والقضيّةِ والمقاومةِ، وكان كتابَه.
من دون إطالةٍ، تعالوا نستعرضَ أسماءَ قليلةً، لعناوينَ كبيرةٍ، وُجهتُها الجنوبُ والقضيّةُ والمقاومةُ: كتابُ “عامانِ من المقاومةِ” الصادرُ سنة 1978، وقد سبقَه: “الخطرُ الإسرائيليُّ على لبنان الجنوبيّ”، “مشروعُ الليطانيّ”، “في نتائجِ العدوانِ الإسرائيليِّ على جنوبِ لبنان”، صفحاتٌ من تاريخِ جبلِ عامل”، “وكلُّ الجهاتِ الجنوبُ” وهو مجموعةٌ شعريّةٌ، “معاً من أجلِ الجنوبِ”، “جنوبُ لبنان خطُّ المواجهةِ الأوّلِ”، “وجوهٌ ثقافيّةٌ من الجنوبِ” بجزئيه الأوّلِ والثاني، “شهاداتٌ على حاشيةِ الجنوبِ”، “من دفترِ الذكرياتِ الجنوبيّةِ” بجزئيه الأوّل والثاني، “الاعتداءتُ الإسرائيليّةُ على جنوبِ لبنان”، “الأبعادُ السياسيّةُ لقضيّةِ الجنوبِ اللبنانيِّ”، “دراساتٌ حولَ جنوبِ لبنان”، المقاومةُ الوطنيّةُ اللبنانيّةُ، طريقُ التحريرِ والوحدة”، “الوقائعُ اليوميّةُ لمسيرةِ المقاومةِ الوطنيّةِ اللبنانيّةِ” وغيرُها من العناوينِ التي لا يتسعُ الوقتُ لتعدادِها.
من عايشَ بصدقٍ تلكَ المكتبةَ الجنوبيّةَ العريقةَ، لا يحتاجُ إلى من يعلمَهُ المقاومةَ، ونحن قرأناها في كتاب حبيب صادق، بل في كتبِهِ صفحاتٍ لا تُمّحى، لا تُنسى.
من عاصرَ حبيب صادق، وعايشَ تجاربَه الإنسانيّةَ والثقافيّةَ والوطنيّةَ، يعي تماماً، أهمّيّةَ الرصيدِ الوطنيِّ الكبيرِ الذي تركَه بين أيدينا وفي عقولنا، وسيبقى نبراساً ومدرسةً من جيلٍ إلى جيل، إلى كلِّ جيل…
شكراً لك، يا عزيزي الأستاذ حبيب صادق على كلِّ هذا الفيضِ من العطاءِ والحبِّ، وعلى هذه المكتبةِ الوطنيّةِ الجامعةِ، التي سنبقى نرعاها بإصرار، وبأهدابِ العيونِ. ولروحِكَ ألفُ تحيّةٍ وسلام”.
وتليت رسالة اعتذار من الموسيقار الفنان مرسيل خليفة بسبب كسر في يده اليمنى بعد سقوطه على أحد السلالم في إيطاليا بتاريخ 4 آب الجاري “وبعد سيكون صعبٌ عليّ المجيء لعندكم وانا أحمل يدي ولا استطيع أن ألبس قميصاً أو التحركَ براحة. عطبٌ كاملٌ. كلّ الحب، وألف تحية لروح الشاعر والأديب الأستاذ حبيب صادق. سيظل اسمه سامقاً في التاريخ كمثل شجر السرو”.
شربل فارس
في وقتٍ قياسيٍّ، ورغبةً منه في معايشةِ صديقِهِ ورفيقِ دربِهِ لسنواتٍ طوالٍ في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وفي خارج المجلس، أبَى الفنّانُ والنحّاتُ والأديبُ الأستاذ شربل فارس إلاّ أن يحيِّي عزيزَهُ الأستاذ حبيب نحتاً، ببورتريه “رأس”.
قام فارس مع عدد من أفراد عائلة حبيب صادق والنائب حمدان بإزاحة الستار عن المنحوتة. تجدر الإشارة إلى أنَّ هذه المنحوتةَ ستكونُ لاحقاً في مقرِّ المجلسِ الثقافيّ للبنان الجنوبي في بيروت، بعد وضعِ اللمساتِ الأخيرةِ وتحويلِها إلى مادّةِ البرونز.
وألقى شربل فارس كلمة قال فيها مخاطباً الفيد صادق: “اسمح لي بداية أن استخدم كلمة عزيزي، المحبّبة إلى قلبك والتي كانت المدخل والخاتمة لأيّ حوار ثنائيّ سلبيّ أو إيجابيّ معك. يا عزيزي. في أربعين غيابك أحمل لمحبّيك بروتريه لرأسك وقد أمضيت أكثر من شهر وأنا أحاول أن أتقرّب من تفاصيل وجهك.
وتعود بي الذاكرة إليك رفيقاً في النضال وفي حضرتك طالباً للثقافة، حيث أمضيت معك، في الهيئة الإدارية للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي حوالي عشرين سنة، أنت الأمين العام وأنا تلميذك، رئيساً للّجنة الفنّية وحيث أقمنا أكثر من عشرين معرضاً تشكيليّاً مشتركاً، منها المعرض المميّز الذي حمل عنوان “لبنان الآتي” والذي جمع أعمالاً فنّية لفنانين لبنانيّين من شطريّ العاصمة، ولأوّل مرّة في الحرب الدائرة في ذلك الحين نخترق الحواجز بعتاد ثقافيّ وتتواصل “الشرقيّة والغربيّة”.
اليوم أعود إليك وأحمل لك قطعة موسيقيّة نحتيّة تحاكي رأسك عزيزي، دوزنتُ الأوتار فيها، وبين الهامة والتمثال مساحة طينيّة تجثو وتشمخ عليها أناملي. أحاول أن أقترب من وجه الحبيب الصادق وبيدي المطرقة فأتعثّر بإزميل حاد في اليد الثانية وبابتسامة خجولة في شفتيك. كيف لي أن أقف بين المطرقة والإزميل وبين أناملي والطين، وأنا في حضرة شاعر وأديب ومناضل؟ كيف لي أن أنحت عضلات الوجه المقاوم بابتسامة خجولة لشاعر مرهف بإنسانيّته ولأديب خطّ قلمه مسيرة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي بالصدى الملتزم بالمدى الديمقراطي؟
الصعوبة كانت في أن أستجمع شعاع الكلمات في ظلال الشفاه ونظرات القوافي في رمشة العين! هل المطلوب منّي أن أجعل من كرسيّ الخدّ مكتبة ومن انعطافة الذقن منبراً ومن مسطّح الجبين جدرايّة تشكيليّة؟ كيف أواجه وجه الحبيب الطليعيّ، اليوم، وأنا منكفئ في صومعتي في تلك الزاوية المنبثقة من لبنان حبيب صادق؟
أسئلة وتساؤلات انتابتني وأنا أعجن الطين بين راحتيّ، وبين عقلي وقلبي تحلّق صور الحبيب وعلى أجنحتها الذكريات علّني وصلت إلى هوية ثابتة لمنحوتة قيد الدرس. حبيب صادق، شكراً عزيزي”.
رسمتْ الفنّانةُ التشكيليةُ خولة الطفيلي بورتريه حيبب صادق، أكواريل قياس 36 سم*36 سم، تحولتِ اللوحةُ إلى بطاقةٍ بريديةٍ وطابعٍ بريديٍّ تذكاريّين، وزعت على جميع الحضور. وأهدت الطفيلي نسخات منمّقةٌ من اللوحةِ إلى عائلةِ الأستاذ حبيب، وإلى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي تسلّمها أمين السر المحامي شادي بزّي، وإلى جمعيّةِ التنميّةِ للإنسانِ والبيئة تسلمها المهندس عبد اللطيف شام الدين.
عقل العويط
اعتذرَ عقل عن الحضور إلى النبطيةِ “لأمرٍ قاهرٍ”، بيدَ أنّه أرسلَ كلمتَه للمشاركة في مهرجانِ التحيّةِ إلى الأديبِ الأستاذ حبيب صادق، ألقاها بالنيابةِ الأستاذ يوسف نصّار:
“عندما سألني أهلي وأصدقائي في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي أنْ أشارك في هذا اللقاء حول حبيب صادق، هنا، والآن، في النبطية، لم أتردّد لحظةً واحدة.
تُرى، هل يجوز، هل يُعقل أنْ أتردّد؟! وهل أنا أستطيع؟!
وإنّي أشارك، بملءِ الوعيِ والعقلِ، وبملءِ المعنى، وبكثافةِ الرمزِ، ليس لأنَّ حبيب صادق صديقي، بل خصوصًا، وفقط، وحَسْب، لأنّه حبيب صادق.
فأنا الآتي من شمالِ لبنان، لطالما انتميتُ، لطالما كنتُ أنتمي إلى الكينونةِ الوطنيّةِ كلِّها، إلى جبلِ لبنانَ، إلى جنوبِه، إلى بقاعِه، إلى بيروتِه، بل إلى لبنانَ الكبيرِ جميعِه وبأسْرِه ومُطلقًا، إلى لبنانَ المدنيِّ العلمانيِّ كلِّه، وإلى العروبةِ الحضاريّةِ الخلّاقة، والأنسنةِ العابرة الحدود والجغرافيّات والهويّات والتواريخ والحضارات والثقافات…، فكيف، والحالُ هذه، لا أنتمي، إذا كانت هذه الكينونةُ، هذا الجبلُ، هذا الجنوبُ، هذا البقاعُ، وهذه البيروتُ، وهذا اللبنانُ كلُّهُ، وهذه الأنسنةُ الفلسفيةُ، مفتوحةً على الآفاقِ، والتنوّعاتِ، والاختلافاتِ، والفرديّاتِ، والمواهبِ، والكراماتِ، والقيمِ، والمفاهيمِ، والحريّاتِ، ومتآخيةً مع نورانيّةِ حبيب صادق، ومع رحابةِ عقله النقديّ، ورجاحةِ فكرهِ المتنوّعِ، وسعةِ حجّتِهِ المتعدّدة، وغزارةِ ثقافتِهِ الانسانيّةِ، وعمقِ كينونته الوجوديّةِ، وفرادةِ أسئلتهِ، وأسبقيّةِ نقدِهِ، وكَرَمِ أدبِهِ، وكرامةِ تأدُّبِهِ، وبنيويّةِ تمايزهِ واختلافهِ، وخروجهِ على الأحاديّاتِ، وخروجهِ إلى الآخرِ، وفروسيّةِ حرّيتهِ ومدنيّتهِ وعلمانيّته؟
وإنّي أشاركُ، ليس لأنَّ حبيب صادق صديقي، بل لأنّها خصوصًا مسألةُ خَيارٍ بالعقلِ، لا بالعاطفةِ.
لقد غاب حبيب صادق، وهذه مناسبةٌ للتكريم.
لكن مشاركتي المتواضعةَ والخفرةَ هذه، ليست لأنّ المناسبةَ مناسبةُ غيابٍ، ولا هي على سبيلِ المجاملةِ واللياقةِ والتكريمِ، بل لأنّ المسألةَ مسألةُ شهادةٍ في الزمن الصعب، في هذا الزمنِ اللبنانيِّ والعربيِّ المستحيلِ الذي انتهت إليه قيمُنا ومعاييرُنا ورؤانا ووقائعُنا الوطنيّةُ الجليلة.
وإنّي أشهدُ لحبيب صادق، هنا والآن، لأنّ مجلسَه والطاولةَ لطالما بَقِيا مجلسَ وطاولةَ الرحاباتِ، والحكمةِ، والعقلِ، والنقدِ، والسؤالِ، والاختلافِ، والمعرفةِ، والشجاعةِ، والجرأةِ، والتعدّدِ، والتنوّعِ، والكفاحِ ضدّ العدوّ الصهيونيّ، لا مجلسَ وطاولةَ الانغلاقاتِ الأحاديّةِ والاستكباراتِ والغرائزِ والدسائسِ والحماقاتِ والمذهبيّاتِ والطائفيّاتِ والعنصريّاتِ والظلاميّاتِ والتخويناتِ والإلغاءاتِ التي باتت، كما هي الآن، وهنا، تعصف بلبنان، وبالعروبة، والعرب، من كلّ حدبٍ وصوب.
إذ يعزُّ عليّ، أنْ لا تُمكّنَني ظروفٌ قاهرةٌ من الحضورِ لإلقاء هذه الكلمة – الشهادةِ بنفسي، فإنّي لَشديد الاعتزاز بأنّ جنوب حبيب صادق، وبأنّ المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، وبأنّ لبنان كلَّه، ستظلّ مكانًا فذًّا، وطليعيًّا، للعقل والسؤالِ والتمرّدِ والرفضِ والاختلافِ والحريّةِ، بفضلِ هؤلاءِ المثقّفينَ الطليعيّينَ والنقديّينَ والمناضلينَ والروّادِ والرسلِ والأحرارِ المعلومينَ والمجهولينَ الذين يواصلون فتحَ الطريقِ، والحؤولَ دون إسقاط لبنان في قبضةِ الظلاميّاتِ على أنواعِها.
وإنّي أشهد لكَ، يا حبيب صادق، ليس لأنكَ صديقي، بل لأنكَ فحسب، وفقط، وخصوصًا، لأنكَ حبيب صادق. والسلام. عقل العويط”.
نصري الصايغ
ثمّ كانت كلمة الأديب والإعلامي نصري الصايغ فقال: “هذه ليست مناسبة وداع. إن شئنا نقول: إنّه لم يرحل عنا ولن. هل نحن أقليّة؟ نعم. الخميرة قليلة والخبز كثير.
حبيب صادق يشبه حيبب صادق. كأنّ لا أحد مثله. متواضع لأنّه مؤمن بالإنسان. وشرط الحياة أن تكون إنسانيّة. ترَهبَن للفكر والعطاء والعمل. العمل بلا ضجيج أو فحيح إعلاميّ. واقعيته دليل على انتمائه إلى الحياة، أكثر من تقديسنا للنظريّات وخرافات المستقبل، الذي نبحث عنه في ماضينا، وماضينا مصاب إمّا بعبادة أو ملهاة كذب وادّعاء.
عرفته رائياً. وأنا لم أكن مثله. هو يؤمن بمستقبل ولا يحلم. يخيط يوميّاته بعمل ثقافيّ دؤوب. ينحاز إلى الإنجاز، ولا يتورّط في مبالغة. علماً أنّه يضمر مقولة رائعة: “علينا أن نختار، إمّا أن نكون بشراً أو نعاجاً” والأهمّ عنده، أنّ المستقبل لا يولد دفعة واحدة. وتكرار الماضي قتل للمستقبل.
هكذا عرفته. يوميّاته تبرهن على أنّ عمله الثقافيّ والسياسيّ هو منع الاستسلام. النكبات كانت تؤلمه وتحرّضه على الأمل. لم يتماهَ مع القطعان، والقطعان عندنا، تخرّجت كلّها من مدرسة نعم. ألا تبّاً لنعم وأهلاً بلا؟!
لسنا اليوم في حفلة وداع، إن شئتم، ظلّ معكم ومشى خلفكم. وإن لا، يصبح كلّ شيء مسرحاً للكذب والعهر والإهانات المتبادلة، والقصف الطائفيّ، والطغيان السياسيّ، والإدمان على نعم، بشبق الرخص والدناءة، وسيادة عقيدة تصديق الكذب والكفر بالقيم.. النتيجة: أمّة ضحيّة القنص السلطوي بكلّ وجوهه: السياسيّ، الرأسماليّ، إضافة إلى القصف الدينيّ بمصادره المختلفة في ما بينها.
عقيدة أمراء الواقعيّة البذيئة: إيّاك الرفض. استسلم وادّعِ أنّك منتصر.
أسأل نفسي: ما الذي جمعني به، فأحببته واختلفت معه خلافاً خصباً. هو مؤمن أنّ صناعة الحياة، تحتاج العطاء. أنّ السياسة فقه العدالة والحريّة. إنّ الحوار، مع الخصوم والمختلفين شبق وهمي. التراشق الفكريّ- العقائديّ- الديني، يؤدّي إلى ما كنّا عليه، وما نحن عليه، الآن وإلى ما بعد الآن.
كان صبره وهدوؤه واحتضانه، يدفعاني لأن أنخرط في مشاريعه وحواراته مع نخب صادقة متواضعة “ما بتشوف حالا” ولا تسعى إلى منصب. وفي تلك الحوارات والندوات، كان هو، يتعمّد أن يكون المشاركون أصحاب آراء وأفكار متباينة جدّاً. أذكر أنّني كنت المخالف بين المختلفين، وكنّا على ودّ ومحبّة واحترام، دائماً
هذا ما صنعته أفكارك يا أخي حبيب، واعتذر منك الآن لأنّي كنت مشاكساً، ولكن على حبّ، أنت ضدّ اليأس دائماً، وأنا مدمن على اليأس. كان اليأس عقيدتي، أبحث عن بصيص أمل، في أفق معتم ودمويّ. وكنت تنصحني، بدفء الكلام، بأنّ التجربة الحياتيّة والنضاليّة، عليها أن تعي الواقع وأن تتطلع إلى ما بعده. علينا أن نؤمن بالإنسان أولاً. أنا كنت معاكساً، أعي الواقع وأتمسّك بتجارب الماضي الدينيّة والعقائديّة والتنويريّة، وكمّاً كبيراً في القيم والحريّة والتقدّم.. هو مؤمن بأنّ الأوطان تبنى مراراً، وأنا في جعبتي قول مأثور: “إنّ كلّ السياسّيين، يجب أن يكونوا كذَبَة كباراً لأنّهم يعدونكم بمستقبل غير موجود”. وكنت أبرهن على ذلك بأنّ هذه الأمة تمتلك فلسفة خاصّة، التراجع والتناحر وتقديس الأكاذيب ومسامحة الإجرام، واستسهال سفك الدّم. نحن يا أصدقاء من سلالة الدم المباح، والفكر المغدور، والأرض المقتولة. لنا دين واحد انتصر علينا: هو دين الخيبات، وعقيدة القمع والتكفير، وبالمناسبة رجال الدّين في أغلبهم يتصرفون أنهم آلهة تطاع. إنّها آلهة مرعبة تبشّر بالجحيم…
جودت فخرالدين
وختاماً تحدّث الشاعر الدكتور جودت فخرالدّين، وقال: “كان حبيب صادق يدعونا إلى مجلسه، ليغمرنا بدماثته ولطفه. وكانت الثقافة بين يديه لغة للتواصل الهادئ والعميق. كانت الثقافة بين يديه مثل جبل عامل، هضاباً تتماوج وتتعانق لكي تكون جبلاً. كانت الثقافة بين يديه احتفاءً بكلّ نبتة واعدة، وخوضاً في البحث عن الفاتن والجديد. كان فرداً ومؤسّسة في آن. كان في أحلامه فرداً، ولكنّه في عمله الثقافي، كان – بشخصه- أشبه ما يكون بمؤسّسة.
عندما أطلق الظاهرة التي عرفت بشعراء الجنوب، قلنا له: سنحمل الجنوب لنطلقه عالياً وبعيداً، عالياً فوق كلّ تحزّب، وبعيداً عن كلّ مذهب أو حزب أو طائفة. قلنا له: كلّ الجهات الجنوب. وكان فرحاً بذلك، واثقاً بما قلنا له.
ثم ذهبنا عالياً وبعيداً، كلّ واحد منّا ذهب على طريقته. وتفرّقت بنا السبل، واختلفنا، لكي يصبح الجنوب غنيّاً على قدر اختلافنا. رحنا نكتب الجنوب والوطن، ونعيد ابتكارهما في كلّ ما نكتبه، وننشر أحلامنا على مساحة الوطن العربيّ كلّه، ولم نكترث لمن حاولوا أن يضعوا “شعراء الجنوب” في حدود من أيّ نوع، سياسيّة كانت أو جغرافيّة أو ثقافيّة. وكان حبيب صادق معنا في كلّ ذلك.
عاش حبيب صادق خارج طائفته، بل خارج كلّ طائفة. ونحن في بلدٍ الطوائف فيه أحزاب، والأحزاب فيه كالطوائف. وكم قلنا وقال حبيب صادق: الوطن لا يعيش إلإ خارج الأحزاب الطائفيّة. وها هو اليوم يُمزق ويتناثر بين الطوائف وأحزابها.
قد يظنّ المرء في هذا البلد أنّ طائفته تحميه وتحصّنه. والحقيقة أنّها تسجنه وتستعبده. الطوائف تجعل من أبنائها المتعصّبين لها أسرى وعبيداً. لا نقول بإلغاء الطوائف، وإنّما نقول بإلغاء الطائفيّة. ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بإقامة الدّولة المدنيّة، التي تضمن المساواة للمواطنين، والتي تجعل الانتماءات من كلّ نوع حرّة لا مفروضة، اختياريّة لا قسريّة، رحبة لا ضيّقة. وكم كان حبيب صادق جاهداً لتحقيق شيء من ذلك.
عاش حبيب صادق خارج طائفته، بل خارج كلّ طائفة. أمّا طموحاته السياسيّة، بل همومه السياسيّة، فكانت تتبع همومه الثقافيّة وتخلص لها. عاش مخلصاً لشغفه بالثقافة وبالعمل الثقافي. عاش مخلصاً لهذا الشغف لدرجة جعلته ينسى نفسه. وإذا كان هنالك من حزب ادّعاه أو طائفة أو منطقة، فقد كان بأفكاره وأحلامه أرحب وأعلى من كلّ تقوقع أو تحزّب.
وعندما وجد نفسه في الملعب السياسيّ، ورأى اللاعبين كلّهم صغاراً، لم يرضَ أن يكون لاعباً صغيراً. لم يجد نفسه في هذا الملعب، الذي رآه منصّة للفساد والكذب. أبى حبيب صادق أن يكون في السياسة لاعباً صغيراً.
في تطلّعه إلى المستقبل، لم يملّ حيبب صادق من التفاته إلى الماضي. أحبّ أن يكون حارساً لتراثنا الإبداعيّ، وخصوصاً في ما يتعلّق بتراثنا الشعريّ. إنّه الشعر… تلك النبتة البهيّة الحرّة في تربة تاريخنا الدمويّ. إنّه زهرة الانطلاق والتمرّد، والانعتاق من بؤر التدجين والتمذهب والتعصّب. إنّه الشعر… تهذيب للنفس وصقل للعقل. ربّما لا يعرف الكثيرون منّا أنّ شخصيّتنا الحضاريّة – نحن العرب- هي في جانبها المضيء شخصيّة شعريّة. ربّما لا يعرف الكثيرون منّا أنّ التنكّر للشعر يجعلنا نفرّط بتلك النفحة العربيّة التي أطلقتنا، ولا يزال من شأنها أن تطلقنا، في فضاء العالم. ربّما لا يعرف الكثيرون منّا أنّ إخلاصنا للشعر هو الكفيل بجعلنا جديرين بالسير في ركاب العلم. فالشعر يجعلنا نحلّق في فضاءات العلم والفلسفة والتاريخ، ولا يكبحنا كما قد يظنّ الكثيرون منّا.
لقد كان حيبب صادق مخلصاً للشعر، واثقاً بذلك الجانب المضيء في تراثنا وفي شخصيّتنا الحضاريّة.
حصّتي من حبيب صادق تلك المودّة العميقة التي جمعت بين شخصينا. وأعمق ما فيها أنّنا لم نكن نحسن التعبير عنها. كان الواحد منّا يخجل من الآخر. كنت أشعر بأنّي أخوه الصغير. وبالنسبة إليه، كلّ مبدع في هذه البلاد كان أخاه الصغير”.
“أجمل الأمهات”
وبعد المهرجان عرض نادي لكل الناس فيلم “أجمل الأمهات” للمخرج الراحل مارون بغداديّ. المصوّر سنة 1978.