الأجور… صراع طبقي مزمن بين كرامة العمال وجشع الهيئات وأرباب العمل
عباس قبيسي
يعيش لبنان منذ العام 2019 واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه الحديث، وسط انهيار الخدمات العامة وتزايد معدلات الفقر والبطالة وهجرة الأدمغة والبلاد تواجه سلسلة من التحديات الصعبة التي طالت مختلف جوانب الحياة من انهيار العملة الوطنية إلى تراجع القدرة الشرائية فأصابت الطبقة العاملة بمقتل، ولا يزالون في ساحة صراع يومية لتأمين الرغيف وأساسيات العيش وبات من الضروري تعديل الحدّ الأدنى للأجور والرواتب بناءً على نسب التضخم الحالية والغلاء وزيادة الأسعار وكضرورة اجتماعية وإنسانية وأخلاقية لا كمسألة تقنية مالية محصورة بأرقام موازنة وأرباح على حساب الطبقة العاملة.
تشهد الأجور فجوة متزايدة بين الواقع والتضخم، مما يضعف القوة الشرائية ويثقل كاهل المواطنين، قبل الأزمة كان الحدّ الأدنى للأجور في لبنان محدّداً بـ 675 ألف ليرة لبنانية، أيّ ما يعادل 450 دولاراً أميركياً، لكن مع الانهيار الحادّ لسعر صرف الليرة، بات الراتب في حينها يساوي 20 دولاراً، مما أفقده كلّ قيمة فعلية ورغم بعض التعديلات والزيادات اللاحقة على الأجور ومنها رفع الحدّ الأدنى إلى 18 مليون ليرة لبنانية أيّ ما يعادل تقريباً 200$، إلا أنّ هذا الرقم بقيَ بعيداً عن تأمين الحدّ الأدنى مقارنة بمتطلبات المعيشة في وطن تتزايد فيه كلفة الخدمات الأساسية وارتفاع الضرائب وسعر الغذاء والكهرباء والاستشفاء والتعليم والدواء…
انّ رفع الحدّ الأدنى للأجور هو معركة اجتماعية وسياسية ولا يُنظر إليها كقضية اقتصادية مالية فقط، بل هي انعكاس لصراع طبقي مزمن بين جشع أرباب العمل الذين يتذرّعون على مرّ السنين بالأعباء التشغيلية الباهظة وقلة الأرباح والمصاريف، وبين العمال الذين يشعرون أنّ الدولة تخلّت عنهم لصالح سياسة السوق، (صراع الطبقات هي نظرية تفسّر القضايا والتوترات في مجتمع مُنقسم إلى طبقات، كلّ طبقة تقاوم من أجل وضعها الاجتماعي والاقتصادي).
وفي الاجتماع الأخير للجنة المؤشر اقترحت الهيئات الاقتصادية رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى ما يعادل 310$، أيّ بزيادة 50% على الحدّ الأدنى الحالي ايّ 110$ في حين طالب الاتحاد العمالي العام ممثلاً العمال في المفاوضات الجارية بـ550$، معتبراً أنّ هذا الرقم لا يحقق سوى الحدّ الأدنى من الكرامة، ولا يتناسب حتى مع خط الفقر، وبحسب إحدى شركات الدراسات يجب ان لا يقلّ الحدّ الأدنى عن 900$ وهذا الرقم يستند إلى مؤشّرات التضخّم الصادرة عن مديرية الإحصاء المركزي، والحكومة بدورها ممثلة بوزير العمل تبدو حائرة فهي من جهة تتفهّم ضرورة تحسين الرواتب في ظلّ تدهور القدرة الشرائية، لكنها من جهة أخرى تتخوّف من أن يؤدي رفع الأجر بطريقة غير مدروسة إلى موجة إقفال في صفوف المؤسسات الخاصة التي أنهكتها الضرائب حسب زعمها.
انّ القضية الحقيقية أكثر من مجرد رقم يطرح ويُعتمد كحدّ أدنى، انّ المشكلة الاساسية تكمن في غياب ايّ رؤية اقتصادية متكاملة قادرة على خلق توازن بين الحدّ الأدنى للأجر المقبول للعيش وواقع السوق اللبناني والمشكلة لا تحلّ بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء، بل تحتاج إلى سياسة اجتماعية واضحة تتضمّن على سبيل المثال لا الحصر:
*إعادة هيكلة النظام الضريبي ليكون أكثر عدالة.
*تعزيز الضمانات الاجتماعية (استشفاء، تعليم…).
*دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتتحمّل كلفة الرواتب.
من المبكر الجزم، إلا أنّ المؤشرات باتت واضحة بأنّ واقع العمال في لبنان يتجه نحو مزيد من التدهور والفقر، في ظلّ عروض بهلوانية هزيلة لا ترقى إلى مستوى المطلوب من متطلبات العيش الكريم، فأزمة الأجور ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات مزمنة ناتجة عن سيطرة حيتان المال على القرار وسوء إدارة امتدّت لعقود، ورغم أنّ تعديلها بات مطلباً ملحّاً، إلا أنّ أيّ تصحيح مالي يبقى قاصراً ما لم يترافق مع إصلاحات اقتصادية شاملة تعيد للدولة دورها كضامن للعدالة الاجتماعية.
وفي ظلّ هذا المشهد القاتم، يُطرح السؤال: ما الجدوى من وطن لا يضمن لعماله العيش الكريم، وهم الذين ينسجون من الرماد أشكالاً ويصنعون من العدم حياةً تستحق أن تُعاش!