عربي ودولي

الفاتيكان وضع اللمسات الاخيرة للجنازة.. العالم يودع اليوم البابا فرنسيس

يودّع الفاتيكان والعالم اليوم البابا فرنسيس، وذلك في مأتم رسمي وشعبي قد يشارك فيه ممثلون عن أكثر من 150 دولة من بينهم الرئيس الاميركي دونالد ترامب ورؤساء مجموعة الدول الاوروبية، وبمشاركة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون.

وبحسب بيان صادر عن الفاتيكان فان مراسم الجنازة ستُقام صباح يوم السبت ٢٦ نيسان ٢٠٢٥، عند الساعة العاشرة صباحًا، في ساحة القديس بطرس، في اليوم الأول من تِساعية الحِداد (نوفينديالي)، وذلك وفقًا لما نصّ عليه دليل جنازات الحبر الروماني (Ordo Exsequiarum Romani Pontificis). وقد أعلن مكتب الاحتفالات الليتورجية البابوية أن الطقوس الجنائزية سيترأسها عميد مجمع الكرادلة، الكاردينال جوفاني باتيستا ري. وعقب الاحتفال الإفخارستي، ستُقام طقوس الوداع الأخير (Ultima commendatio) والتوصية الختامية (Valedictio) ومن ثم سيُنقل نعش الحبر الأعظم إلى داخل بازيليك القديس بطرس، ليُحمل بعد ذلك إلى بازيليك القديسة مريم الكبرى حيث يُوارى الثرى.

اغلاق النعش
ومساء أمس، أقيمت في بازيليك القديس بطرس، رتبة إغلاق نعش الحبر الأعظم الراحل، وذلك عند مذبح الاعتراف، في البازيليك الفاتيكانية. وقد ترأس هذه الرتبة الكاردينال كيفن جوزيف فاريل، بحضور بعض أفراد عائلة البابا الراحل، إلى جانب المشاركين المحددين من قبل مكتب الاحتفالات الليتورجية. وخلال المراسم، تلا المونسينيور دييغو رافيلي، المكلّف بالاحتفالات الليتورجية، وثيقة موجزة توثّق حياة البابا وأعماله، ثم وُضعت هذه الوثيقة في النعش عند ختام الاحتفال.
هذا وقد وجرت المراسم وفقًا لما تنص عليه تعليمات “طقوس جنازة الحبر الروماني”، واختتمت في تمام الساعة التاسعة مساءً. وخلال الليل، تناوب أعضاء الـ “Capitolo di San Pietro” على الصلاة والسهر أمام جثمان البابا، إلى أن يحين وقت الاستعدادات لاحتفال القداس الإلهي صباح اليوم.
نص الرسالة
وجاء في الرسالة النص التالي:
في الحادي والعشرين من نيسان عام اليوبيل ٢٠٢٥، عند الساعة السابعة وخمسٍ وثلاثين دقيقة صباحًا، بينما كانت أنوار القيامة تضيء اليوم الثاني من ثُمانية الفصح، في اثنين الملاك، انتقل الراعي المحبوب للكنيسة، البابا فرنسيس، من هذا العالم إلى حضن الآب. لقد رافقنا حاجً رجاء، ومرشدًا ورفيقًا في المسير نحو الهدف العظيم الذي نحن مدعوّون إليه، أي السماء. وكانت الجماعة المسيحية جمعاء، ولا سيّما الفقراء، ترفع الشكر لله من أجل خدمته التي أداها شجاعة وأمانة للإنجيل وللعروس السريّة للمسيح. كان فرنسيس البابا الـ ٢٦٦. وسيبقى ذكره حيًّا في قلب الكنيسة والبشرية جمعاء.

ولد خورخي ماريو برغوليو في بوينس آيرس في ١٧ كانون الأول ١٩٣٦ من مهاجرين من إقليم بييمونتي الإيطالي؛ فكان والده ماريو محاسبًا وموظفًا في السكك الحديدية، وأمّه ريجينا سيفوري ربّة منزل ومربّية لأبنائهما الخمسة. بعد أن نال دبلومًا في الكيمياء الصناعية، اختار طريق الكهنوت فدخل في البدء المعهد الإكليريكي الأبرشي، ثم التحق في ١١ آذار ١٩٥٨ بالرهبنة اليسوعية. تابع دراساته الإنسانية في تشيلي، ثم عاد إلى الأرجنتين عام ١٩٦٣ ونال إجازة في الفلسفة من كلية القديس يوسف في سان ميغيل. درّس الأدب وعلم النفس في معهد الحبل بلا دنس في سانتا فيه، ثم في معهد المُخلّص في بوينس آيرس. نال السيامة الكهنوتية في ١٣ كانون الأول ١٩٦٩ على يد المطران رامون خوسيه كاستيانو، وأبرز نذوره المؤبدة في الرهبنة اليسوعية في ٢٢ نيسان ١٩٧٣. شغل مناصب تربوية وإدارية في الرهبنة منها معلم الابتداء، أستاذ في كلية اللاهوت، مستشار للرهبنة ورئيس كلية، ثم عُيّن في ٣١ تموز ١٩٧٣ رئيسًا إقليميًا لليسوعيين في الأرجنتين. بعد عام ١٩٨٦ أمضى بعض الوقت في ألمانيا لإتمام أطروحته الدكتوراه، ولدى عودته إلى الأرجنتين أصبح مساعدًا مقربًا للكاردينال أنطونيو كوارّاتشينو. وفي ٢٠ أيار ١٩٩٢ عيّنه البابا يوحنا بولس الثاني أسقفًا فخريًا على أوكا ومعاونًا لأسقف بوينس آيرس. اتخذ شعارًا أسقفيًّا: “رُحِمَ فاختير” ووضع في شعاره الكريستوغرام الشهير IHS، رمز رهبنة اليسوعيين. في ٣ حزيران ١٩٩٧ عُيّن أسقفًا معاونًا أول، ثم خلف الكاردينال كوارّاتشينو في ٢٨ شباط ١٩٩٨ كأسقف لبوينس آيرس، ومشرف على مؤمني الطقوس الشرقية، والمستشار الأعلى للجامعة الكاثوليكية. وعيّنه يوحنا بولس الثاني كاردينالاً في كونسيستوار ٢١ شباط ٢٠٠١، وعيّنه لاحقًا مقررًا مساعدًا في الجمعية العامة العاشرة لسينودس الأساقفة. تميّز كأسقف ببساطة محبوبة لدى شعبه، وكان يجول في أبرشيته حتى باستخدام المترو والحافلات، يسكن في شقّة متواضعة ويعدّ طعامه بنفسه لأنه كان يشعر بأنه واحد من الناس.

بعد استقالة بندكتس السادس عشر، انتخبه الكرادلة في الكونكلاف بتاريخ ١٣ آذار ٢٠١٣ واختار اسم “فرنسيس” تيمنًا بفقير أسيزي، ليعبّر عن أولويته في خدمة الفقراء والمنبوذين. ومن شرفة البركات قدّم نفسه بهذه الكلمات: “أيها الإخوة والأخوات، مساء الخير! والآن، نبدأ هذه المسيرة: أسقف وشعب. درب الكنيسة في روما، التي ترأس في المحبة جميع الكنائس. درب أخوّة، ومحبة، وثقة بيننا”. ثم انحنى وقال: “أطلب منكم أن تصلّوا إلى الرب كي يباركني: صلاة الشعب طالبًا البركة لأسقفه”. وبدأ خدمته البطرسية رسميًّا في ١٩ آذار، عيد القديس يوسف.

منذ البداية رفض الانعزال، واختار الإقامة في بيت القديسة مرتا بدل القصر الرسولي، واحتفل مساء خميس الأسرار بعشاء الرب خارج الفاتيكان في سجون ومراكز استقبال لذوي الاحتياجات الخاصة أو المدمنين، ووجّه الكهنة لكي يكونوا مستعدّين على الدوام لأن يمنحوا سرّ الرحة ولكي يخرجوا من السكرستيا بحثًا عن الضالين، ويفتحوا أبواب الكنيسة للذين يرغبون بشوق أن يلتقوا وجه الآب.

مارس خدمته البطرسية بلا كلل في تعزيز الحوار مع المسلمين وسائر الديانات، فدعا مرارًا إلى لقاءات صلاة، ووقّع وثائق مشتركة أبرزها “وثيقة الأخوّة الإنسانية” مع الإمام الطيب في أبو ظبي، ٤ شباط ٢٠١٩. دفعه حبه للفقراء والمُسنّين والأطفال إلى تأسيس “اليوم العالمي للفقراء”، و”يوم الأجداد”، و”يوم الأطفال”، بالإضافة إلى “أحد كلمة الله”.

وسع مجمع الكرادلة أكثر من أيّ سلفٍ له، فعقد عشرة كونسيستورات عين خلالها ١٦٣ كاردينالاً، منهم ١٣٣ ناخبًا و٣٠ غير ناخبين، من ٧٣ دولة، منها ٢٣ لم يكن لها سابقًا كاردينال. دعا إلى ٥ جمعيات لسينودس الأساقفة، ٣ جمعيات عامة عادية مخصصة للعائلة، والشباب، والسينودسية، واحدة استثنائية حول العائلة، وأخرى خاصة بمنطقة الأمازون.

ارتفع صوته مرارًا للدفاع عن الأبرياء، لا سيما خلال جائحة فيروس الكورونا، حيث صلّى وحيدًا مساء ٢٧ آذار ٢٠٢٠ في ساحة القديس بطرس التي كانت تعانق روما والعالم، من أجل البشرية الخائفة التي تجرحها آفة مجهولة. وفي سنواته الأخيرة، أطلق العديد من النداءات للسلام، في وجه “حرب عالمية ثالثة تشنّ على أجزاء” قائمة في العديد من البلدان لاسيما في أوكرانيا، وفلسطين، وإسرائيل، ولبنان، وميانمار.

في ٤ تموز ٢٠٢١، أُدخل مستشفى أغوستينو جيميلي لعشرة أيام إثر عملية جراحية. ثم عاد إليه في ١٤ شباط ٢٠٢٥ بسبب التهاب رئوي مزدوج، وأمضى فيه ٣٨ يومًا. بعد عودته إلى الفاتيكان، أمضى أسابيعه الأخيرة في بيت القديسة مرتا، مواصلاً خدمته البطرسية حتى الرمق الأخير، رغم وهن جسده. وفي يوم الفصح، ٢٠ نيسان ٢٠٢٥، أطلّ لمرّة أخيرة من شرفة البازيليك ليمنح البركة الرسولية لمدينة روما والعالم.

أما تعليمه العقائدي فكان غنيًّا جدًّا. بأسلوبه المتواضع والبسيط، الذي يقوم على الانفتاح على الرسالة، وعلى الشجاعة الرسولية والرحمة، حريصًا على تجنب خطر المرجعية الذاتية والدنيوية الروحية في الكنيسة، فعبّر عن برنامجه الرسولي في الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل الصادر في ٢٤ تشرين الثاني ٢٠١٣. ومن أبرز وثائقه: أربع رسائل عامّة، هي: نور الإيمان (٢٩ حزيران ٢٠١٣) التي تتناول موضوع الإيمان بالله، “كُن مُسبحًا” (٢٤ أيار ٢٠١٥) التي تتطرق إلى مشكلة البيئة ومسؤولية البشرية في أزمة المناخ، “Fratelli tutti” (٣ تشرين الأول ٢٠٢٠) حول الأخوة الإنسانية والصداقة الاجتماعية، ” Dilexit nos” (٢٤ تشرين الأول ٢٠٢٤) حول التكرس لقلب يسوع الأقدس. كما أصدر ٧ إرشادات رسولية، و٣٩ دستورًا رسوليًا، والعديد من الرسائل الرسولية التي جاء معظمها على شكل إرادة رسوليّة، ورسالتين مقدستين في السنوات المقدسة، بالإضافة إلى الرسائل العامة المقترحة في المقابلات العامة الخطابات التي ألقاها في مختلف أنحاء العالم. وبعد أن أنشأ أمانتي سر للإعلام والاقتصاد، ودوائر للعلمانيين والعائلة والحياة، ولخدمة التنمية البشرية المتكاملة، وأصلح الكوريا الرومانية عبر الدستور الرسولي “Praedicate Evangelium” الصادر في ١٩ آذار ٢٠٢٢. عدّل أيضًا مسار إعلان بطلان الزواج في القانونين الشرقي والغربي (يسوع الوديع الرحيم، يسوع القاضي الوديع)، وشدد في مكافحة الجرائم التي ارتكبها الإكليروس ضد القاصرين والضعفاء في الكنيسة من خلال الإرادة الرسوليّة ” Vos estis lux mundi”.  لقد ترك البابا فرنسيس للعالم أجمع شهادة رائعة في الإنسانية، والقداسة، وأبوّة شاملة لجميع البشر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى