مفاوضات مسقط: التحوّل الكبير
كتبت صحيفة “الديار”: هذا هو الفارق الاستراتيجي بين نظرة دونالد ترامب ونظرة بنيامين نتنياهو. الأول لا احتواء للشرق الأوسط الا باحتواء ايران. الثاني لا تغيير للشرق الأوسط الا بتغييير ايران. هنا الضربة الديبلوماسية، وهناك الضربة العسكرية، باعتبار أن آيات الله الذين خسروا مواقعهم الجيوسياسية (الأمامية) في المنطقة لن يتوقفوا عن الرهان بـ «الصبر الاستراتيجي» الذي كتب عنه محمد جواد ظريف ـ وكان نجم مفاوضات فيينا ـ على حركة الأعاصير التي تتبدل بين ساعة وأخرى.
أفضل ما فعله الرئيس الأميركي أنه أناط بصديقه الملياردير ستيفن ويتكوف، البعيد عن المراوغة الديبلوماسية، وعن الصخب السياسي، مهمة قيادة محادثات مسقط مقابل عباس عرقجي الذي يعتبر «الوجه الأكثر اشراقاً»ً في المؤسسة الديبلوماسية الايرانية. هكذا تلاشت الشروط العالية، والضاغطة، والمؤثرة، بعدما تمكن وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي من ازالة أي أثر للشبح الاسرائيلي من الغرفة الأميركية.
مدينة الجبال الرائعة
مسقط مدينة تستمد ألقها من كونها بوابة المحيط الهندي، بكل ألغازه، وبماضي القوافل التي كانت تنقل الحرير والحلى والأفاويه. اذ تقع بين تلك الجبال الرائعة يبدو أنها أخذت هدوءها من «عبقرية المكان». هي مختلفة عن فيينا التي طالما عرفت صهيل الخيول، ولم يكن آخرها صهيل الخيول العثمانية. لا ننسى أن النمسا أنتجت ادولف هتلر، مثلما أنتجت سيغمند فرويد، وكذلك يوهان شتراوس الذي أدرك ما يعنيه وجود مدينة على ضفاف الدانوب، فكان أن وضع سنفونية «الدانوب الأزرق». في هذه المدينة تم توقيع الاتفاق النووي بين أميركا وايران، بعد سنوات من المفاوضات الشاقة والمعقدة.
ولكن أليست فيينا المدينة التي عقد فيها المؤتمر الشهير، عام 1815، أي بعد سقوط نابليون بونابرت، والحاجة الى خارطة جديدة للعلاقات الأوروبية ـ الأوروبية. نجم المؤتمر كان المستشار النمساوي كليمنت ميترنيخ، مع الفرنسي شارل تاليران.
البوسعيدي كان نجم محادثات مسقط. لم يشرف فقط على هندسة الغرفتين المنفصلتين لتكونا مكاناً مثالياً لاطفاء النيران التي في الرؤوس، بل انه تولى أيضاً هندسة الأجواء السيكولوجية بين ويتكوف وعراقجي اللذين خرجا من المحادثات التي استغرقت 150 دقيقة، ليتصافحا بما يشبه العناق. دردشة لدقائق بدت كما لو أنها لساعات. الحبورعلى وجه وزير الخارجية الايراني اختزل المشهد برمته. المسار قد يستغرق اشهراً لا سنوات، وان كان البيت الأبيض قد اشار، في بيانه، الى «وجود قضايا بالغة التعقيد مع ايران». المهم أنها المحادثات التي لا تجري وسط النيران أو وسط المقابر. دونالد ترامب يريد ان يقطع الطريق على طريق الحرير وفي ايران، وما تعنيه لهذه الطريق. ورقة ذهبية في وجه التنين، اذا ما أخذنا بالاعتبار مدى حساسية الموقع الايراني بالنسبة الى النظرة الصينية للشرق الأوسط.
الاسرائيليون لم يكونوا يتوقعون أن تمضي الأمور بتلك الانسيابية ، وهم الذين توقعوا أن تكون المحادثات بمثابة محاولة كل طرف استنزاف الطرف الآخر. حتى الآن ما زالوا يشترطون تفكيك البرنامج النووي الايراني على الطريقى الليبية. شرط تعجيزي وغير منطقي، حتى أن هناك جهات اعلامية ألمحت الى أن ترامب، وخلال لقاء المكتب البيضاوي، سأل نتنياهو عن رده لو طلبت احدى الجهات المؤثرة طبعاً تفكيك الترسانة النووية الاسرائيلية. الرئيس الأميركي غير مقتنع بطرح مسألة التفكيك الا في سياق تكتيكي ولا علاقة له بالمسار الاستراتيجي للمحادثات.
الضربة القاضية
المعلقون الاسرائيليون المعارضون لسياسات الائتلاف اليميني المتطرف رأوا في مشهد المصافحة بين ويتكوف وعراقجي مؤشرأ على اقتراب الضربة القاضية على رأس رئيس الحكومة الذي بدا أن الكرسي بدأ يهتز تحته منذ تلك اللحظات الصعبة في البيت الأبيض، وحيث اضطره الرئيس الأميركي الى الاصغاء، وعدم اللجوء الى اللهجة التي استخدمها في الكابيتول، الصيف الماضي (14 تموز)، وحيث فاق تصفيق المشرعين من سائر الأنواع، والاتجاهات، له التصفيق لونستون تشرشل الخارج، للتو، منتصراً من الحرب العالمية الثانية.
الآن بدأ الحديث يتزايد في تل أبيب حول انتخابات مبكرة تؤدي الى تغيير التركيبة الحالية في الكنيست. أكثر من ذلك شركاء في الائتلاف أخذوا علماً، ومن مصادر في واشنطن، أن ترامب لا يجد في نتنياهو رجل المرحلة لأنه يربط بقاءه في السلطة ببقاء الحرب.
بالحرف الواحد سألت قناة «فوكس نيوز» ما اذا كان هدير القاذفات سيتوقف في سماء الشرق الأوسط ؟ أوحت أيضاً بأن البنتاغون بعث بالأرمادا الجوية والبحرية الى المنطقة، أو الى أمكنة قريبة اليها، من أجل وضع حد للحروب لا من أجل تفجير الحروب. على كل الأبوسعيدي كان متفائلاً بـأن تكون عاصمة بلاده المدخل الى حقبة من الاستقرار على امتداد الشرق الأوسط. جدعون ليفي لاحظ الاكفهرار في وجه نتنياهو «هكذا تكون عادة وجوه الموتى…».
بالتأكيد، الايرانيون لا يريدون الحرب، بل ويخشون من حرب تفتقد كل ديناميات التوازن الاستراتيجي. الآن ليست ديبلوماسية حائكي السجاد، وانما ديبلوماسية بائعي السجاد (حيث السرعة في الأداء). آية الله خامنئي ترك الفقه السياسي، باللمسات الايديولوجية الحادة، الى الفقه الاقتصادي، باللمسات البراغماتية الناعمة. أغرى، بل أغوى، ترامب بـ 4 تريليونات دولار كاستثمارات في السوق الايرانية المتعطشة لكل أنواع المنتجات الأميركية، من طائرات البوينغ (وحيث الاختبار لقوة العلاقات) الى زجاجات الكوكا كولا.
الدولة العبرية خلاف ذلك تأخذ ولا تعطي. ترامب، وفي تصريح أخير له، قال «اننا نعطي اسرائيل الكثير» مشيراً الى اعادة النظر بالموضوع. ويتكوف يعرف الكثير عن احتياجات، وعن أفاق، السوق الايرانية. كذلك الكثير عن الأمزجة الايرانية بعيداً عن القيود «الشرعية» التي يفرضها النظام.
القنبلة الاقتصادية
للتو كانت تعليقات الشاشات الأميركية. ايران تفضل القنبلة الاقتصادية على القنبلة النووية، حتى في المفهوم الثوري للقوة. هذا يتزامن مع صدور أبحاث لافتة في محتواها عن «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، الممول من اللوبي اليهودي (الايباك). لاحظت أن استراتيجية التسلل التي ينتهجها رجيب طيب اردوغان للاقتراب من الحدود مع اسرائيل قد تكون أشد خطراً بكثير من الاستراتيجية الصاخبة التي ينتهجها المجمع الديني الايراني، والتي اصيبت بضربات مدوية في الفصل الأخير من العام الفائت. هذا لا يعني أن اللوبي اياه لن يحاول عرقلة المفاوضات اذا ما لاحظ أن اسرائيل ستكون خارج اللعبة.
معلقون أميركيون عرفوا بدعمهم للسياسات الايرانية العمياء رأوا أن مرشد الجمهورية الاسلامية اشترى ترامب بالـ 4 تريليونات دولار، وهو سعر منخفض بالنسبة الى رجل يمسك بيده مصير الشرق الأوسط أن في اتجاه الاحتواء، أو في اتجاه التغيير.
الانفتاح على التسوية
هل يمكن القول ان ما حدث في مسقط قد يشق الطريق الى نوع آخر من التغيير، أي برؤية واشنطن البانورامية لا برؤية أورشليم الضيقة. وكان بناة هذه المدينة قد راهنوا أن تكون أثينا لا أن تكون اسبارطة. «وول ستريت جورنال» نقلت عن ترامب قوله ان ادارته منفتحة على التسوية مع ايران حتى قبل محادثات مسقط التي تمحورت حول البرنامج النووي، دون أي مسألة أخرى. لا الموضوع الباليستي، ولا الموضوع الجيوسياسي. كما أن الرئيس الأميركي وصف المحادثات بأنها «تمضي على نحو جيد».
جلسة السبت المقبل، وفي السلطنة أيضاً، مخصصة للنقاط التقنية، أي جلسة خبراء لا جلسة سياسيين ولا جلسة ديبلوماسيين. المهم أن البداية كانت واعدة، وتشي باحتمال أن تمضي المفاوضات بأقل قدر ممكن من التعثر، مع اعتبار أن اشياء كثيرة، وكثيرة جداً، قد تغيرت في السنوات العشر المنصرمة.
ما لوحظ لدى الأوساط السياسية، والاعلامية، الخليجية، الترحيب بالمنحى الذي تأخذه المفاوضات، وعلى أساس أن المنطقة التي اقتربت كثيراً من الانفجار قد تتجه الى الانفراج، شرط أن ينزل نتنياهو عن خشبة المسرح. وهذا ما يتوقعه، أيضاً، الخليجيون، وحتى الاسرائيليون، خصوصاً بعد كلام ترامب عن صفقة، خلال أسبوعين، حول مسألة الرهائن. كلام أشبه بـ «الأمر الأميركي».
ماذا عن لبنان ؟ هل يفترض بنا التوجس من أن يحاول نتنياهو الالتفاف حول محادثات مسقط وتوسيع العمليات العسكرية في لبنان ؟ الاجابة عن السؤال من باريس «لبنان لا بد أن يتأثر ايجاباً بأي خطوة الى الأمام بين واشنطن وطهران. وحين يرغم رئيس الحكومة الاسرائيلية بصفقة حول غزة، لا يستطيع أن يقوم بأي خطوة انتحارية ضد لبنان..