عبرا ليست ضاحية من صيدا.. بل بلدة مسيحيّة أفقدها «الإمتداد الطبيعي» هويّتها
جاد صعب / الديار عندما تسمع الشيخ احمد الاسير.. او النائبة بهية الحريري وفريق «تيار المستقبل»، وهم يتحدثون عن عبرا، تظن ان عبرا هذه، تشكل ضاحية.. من ضواحي مدينة صيدا، او حيا من احيائها، حتى ان بعض الاعلاميين يتحدثون في اخبارهم وتحاليلهم، عن «محلة عبرا»، فتُطمس عبرا، البلدة المسيحية الاكبر في قرى وبلدات شرق صيدا، على الرغم من الانقلاب الديموغرافي الذي اصابها منذ ما عُرف بـ «حرب شرق صيدا»، التي دارت بين القوات اللبنانية المدعومة من الاحتلال الاسرائيلي من جهة، والاحزاب والقوى السياسية التي كانت تنضوي في «الحركة الوطنية اللبنانية»، التي جرت غداة تحرير منطقة صيدا من الاحتلال الاسرائيلي في العام 1985.
وحين يسمع اللبنانيون الاسير، وهو يتحدث عن «تغلغل» «حزب الله» في عبرا، من خلال اقامة عناصر له داخل شقق، يخال للبعض انه يتحدث عن حيّ في صيدا او بلدة سُنية ملاصقة للمدينة.. ويظن هذا البعض، ان الاسير مُحق في ما يطرحه، لكونه «حريص» على مناطق الوجود السُني، فيما الصورة معاكسة لذلك تماما، ويغيب عن بال الكثيرين، ان «حزب الله» موجود في عبرا منذ كانت جبهة عين المير ـ كفرفالوس في منطقة جزين، يوم كان جيش التحرير الشعبي ـ قوات الشهيد معروف سعد يواجه ميليشيات العميل الاسرائيلي سعد حداد، ومن ثم ميليشيا «جيش لبنان الحر» الموالي للاحتلال الاسرائيلي بقيادة العميل انطوان لحد، حيث كان الاحتلال يقيم على بعد ستة كيلومترات فقط من عبرا (قبل تحرير منطقة جزين من الاحتلال في حزيران العام 1999)، حيث كانت الاحزاب اليسارية المنضوية في المقاومة الوطنية تنشر مجموعات لها في بلدات خلفية، لكنها قريبة من خط جبهة الحرب في كفرفالوس.
يروي احد المواكبين للاحدث والمعارك التي شهدتها منطقة صيدا ـ جزين، كيف ان منازل عبرا، دُمرت تدميرا منظما، عبر آليات وجرافات ثقيلة، وهذا التدمير ازال الوجود المسيحي عن عبرا، حين واجه المسيحيون من ابناء البلدة صعوبة في العودة، بسبب وجود جبهة الحرب في منطقة كفرفالوس.
ويعود محدثنا الى العام 1990، اي قبل عام واحد على انتشار الجيش اللبناني في منطقة صيدا وساحل جزين، حيث عمل رئيس التنظيم الشعبي الناصري النائب الراحل مصطفى سعد، على تأمين عودة سكان قرى وبلدات شرق صيدا، انطلاقا من مخاوف حول «الانقلاب الديموغرافي» الذي قد تشهده المنطقة، في حال غابت الحوافز المساعدة على العودة، ويومها قام سعد بالتنسيق مع الارشمندريت سليم غزال (قبل ان يصبح مطرانا في الكنيسة الكاثوليكية) ، بالاضافة الى المطران الراحل ابراهيم الحلو والنائب الاسقفي العام لابرشية صيدا المارونية الخوراسقف حنا الحلو، للشروع في حث المسيحيين على العودة الى منازلهم، لكن المشكلة التي اعترضت العودة الكاملة لهم الى منازلهم واملاكهم، كان التدمير المنهجي الذي طال الوحدات السكنية في هذه المنطقة .
والمعروف عن «ابونا سليم»، كما يناديه سكان المنطقة، حتى بعد ان اصبح مطرانا، انه لم يغادر قط المنطقة، حتى في احلك الظروف الامنية الصعبة، على الرغم من التهديدات التي كانت مفروضة بفعل ظروف الحرب، يصول ويجول من اجل ان يبقى المسيحيون في قراهم، تخوفا من الوصول الى الواقع السائد اليوم،.. يومها كلف غزال مجموعات من الشيوعيين لحراسة دار العناية، كي لا تتعرض للتخريب او للسرقة التي شاعت في مثل تلك الظروف التي سادت.
ويشير الراوي : لم يسلم شيء من منازل عبرا التي تحولت، بفعل التدمير المنظم، الى كتل من ركام للمنازل التي سويت على الارض، باستثناء منازل قليلة «نجت» من التدمير والتخريب ممن كتب اصحابها على مداخلها «هذا بيت مسلم»، فلجأت قلة من سكان البلدة المسيحيين ممن سمحت لهم ظروفهم المادية، ومنذ انتشار الجيش اللبناني في تموز العام 1991، وما تلاها من تجميد جبهة كفرفالوس ـ عين المير، الى اعادة تشييد منازلها في الجزء الشرقي من البلدة، والتي تُعرف اليوم بعبرا ـ الضيعة، فيما شهد الجزء الغربي من البلدة، والتي يُطلق عليه اليوم اسم «عبرا الجديدة» تغييرا ديموغرافيا، من خلال انتشار المجمعات السكنية الكبيرة من خلال مستثمرين في بناء العقارات، بعد ان اشتروا مساحات شاسعة من اراضي البلدة، واسكان الاف العائلات الصيداوية فيها، تحت شعار «ان منطقة شرق صيدا هي امتداد جغرافي طبيعي لمدينة صيدا»، بعد ان ضاقت المدينة بسكانها، فراحت تنتشر المساجد ليؤمها المصلون من سكان عبرا الجدد، في وقت لم يُعد بناء الكنائس المدمرة، ففي عبرا الجديدة اليوم اكثر من خمسة مساجد، فيما لا يوجد اي كنيسة،… ربما لان عدد المسيحيين الذين ما زالوا يقطنون في عبرا الجديدة «غير محرز» لبناء كنيسة خاصة لهم.
لكن الاخطر مما حصل، ما يجري في قرى وبلدات مسيحية اخرى في شرق صيدا وساحل جزين، من مجدليون المسيحية التي تقيم فيها اغلبية مسلمة، والصالحية التي بات عدد المسيحيين المقيمين فيها يكاد يوازي عدد المقيمين المسلمين، وكفرجرة التي تجاوز عدد المقيمين المسلمين بكثير، عدد سكانها المسيحيين، من خلال مجمعات رستم التي تستوعب اكثر من 600 عائلة، اضافة الى التغيرات الديموغرافية الجارية في قرى وبلدات مسيحية اخرى على الخط الثاني الموازي لخط شرق صيدا ـ جزين، وبالتحديد في بلدتي عين الدلب والقرية.. اضافة الى دخول مؤثرات من شأنها ان تُجري تغيرا ديموغرافي
ة في بلدات درب السيم ومغدوشة الواقعتين في جنوب صيدا، امتدادا حتى بلدة الرميلة ووادي الزينة وجدرا والسعديات وصولا الى الناعمة في ساحل الشوف.
في مقابل تعزيز الوجود الاسلامي ـ الصيداوي في قرى وبلدات شرق صيدا، برز في العقدين الماضيين، نزوح جماعي من داخل مدينة صيدا، وتعاظم هذا النزوح مع موجات ترهيبية مارستها قوى وتيارات اسلامية اصولية متشددة، خاضت حرب التفجير التي طالت متاجر لبيع الكحول، وهي حرب طالت متاجر في صيدا والرميلة وجدرا ووادي الزينة التي باتت اشبه بمخيم لبناني ـ فلسطيني كبير.
ويتوقف الراوي الذي يرى ان الوجود المسيحي في شرق صيدا، يحمل الكثير من الدلالات الرمزية والتاريخية في حياة الجنوب اللبناني، هذا الوجود الممتد من مناطق في صيدا وصور وبنت جبيل، ويتعزز اكثر في مناطق مرجعيون وحاصبيا والنبطية، عند موقف الكنيسة المسيحية مما جرى خلال السنوات الماضية من «هجمة اسلامية» على القرى المسيحية، فيلفت الى ان الكنيسة تعاملت مع الواقع في بدايته، على انه طبيعي، وهي كانت محرجة جراء الظروف المعقدة التي عاشتها المنطقة خلال الحرب، فتعاملت بمرونة ازاء ما يجري، فالعائلات المسيحية التي قررت العودة الى قراها وجدت صعوبة مالية لاعادة بناء منازلها، فلجأ العديد منهم الى بيع قسم من عقاراتها لتوفير المال اللازم لاعادة البناء، ولم يجد هؤلاء من يشتري سوى مجموعة من العقاريين والمستثمرين في بناء العقارات، الذي قدموا عروضات سخية للعائلات المسلحة، كي تتوجه من صيدا الى شرقها، الى ان استفاق بعض رجال الكنيسة، لينبهوا من مخاطر ما يجري من تغيير ديموغرافي، فـ «افتى» بعض المطارنة بعدم جواز بيع العقارات والاراضي لغير المسيحيين، لكن هذه «الفتوى»، وامام حجم الازمة المالية التي عانت منها العائلات المسيحية من سكان المنطقة، لم تجد الصدى المطلوب، الى ان توقف الزحف الاسلامي من صيدا الى ساحل جزين، عند حدود بلدة لبعا التي سارعت فاعلياتها وبلديتها الى اتخاذ اجراءات قاسية للحد من بيع عقارات البلدة، فرفعت عامل الاستثمار الى حد يوقف كل مشاريع بناء المجمعات السكنية.. كمجمع رستم في كفرجرة الذي بات اليوم اشبه بمدينة صغيرة، يتجاوز عدد المقيمين فيه عدد سكان البلدة الاصليين.
وتتخوف مصادر كنسية في الجنوب، من ان تتحول قرى وبلدات شرق صيدا، وبسبب غياب المعالجات الحقيقية للحفاظ على الوجود المسيحي في المنطقة، من ان تتزايد عمليات النزوح القسري للمسيحيين من قراهم وبلداتهم، تحت ضغط ظهور التيارات الاسلامية المتشددة، فالبيئة الحاضنة للتيارات السلفية المتشددة، تقول المصادر، موجودة وبشدة، وان الامكانيات المادية التي تتمتع بها هذه المجموعات قادرة على الاستمرار في مسلسل القضم التدريجي للقرى المسيحية، لمصلحة الوجود الاسلامي المتنامي في المنطقة.
وتشير المصادر الى ان معظم الفاعليات والقوى السياسية والدينية في صيدا، وبالاخص قوى نافذة تقدم نفسها على انها الراعية للساحة السنية، لم تتخذ خطوات من شأنها، ليس تعزيز الوجود المسيحي، بل الحفاظ على ما تبقى منه في مناطق شرق صيدا وساحل جزين، او الحد من تذويب هذا الوجود، حيث ان معظم هذه القوى والفاعليات ساهمت في الوصول الى هذا الواقع المخيف الذي بات يهدد الوجود المسيحي بالكامل، وتلفت الى ان معظم هذه الفاعليات يقيم في منطقة صيدا، في الهلالية وعبرا ومجدليون والصالحية (قضاء صيدا) وكفرجرة وصولا الى لبعا (قضاء جزين )، ورعى اقامة المساجد في تلك المنطقة… في كثير من الاحيان تنتفي الحاجة اليها، حتى ان احد الامراء القطريين «الهمه» الله، ليبني مسجدا كبيرا بين بلدتي مجدليون والصالحية، وليكون «اجره» عظيما عند الله، قام باستيراد حجارة المسجد من المملكة العربية السعودية.
الخوف الكبير على مصير الوجود المسيحي في منطقة شرق صيدا وساحل جزين، المصحوب بخوف مستقبلي على هذا المصير في منطقة جزين نفسها، يكبر حين ترى مظاهر الزينة في اعياد المسلمين تعلو في ساحات هذه القرى وشوارعها الرئيسة، في حين تغيب زينة الميلاد و«تنقرض» الزينة الخاصة بميلاد السيد المسيح.