رابطة أدباء شباب سورية توزّع مئات الكتب المتنوعة مجاناً
صهيب عجمي
أقامت رابط أدباء شباب سورية مهرجانها بعنوان حبرُ قلمها يُزهر في قلوبنا ، أقامت في ختامه مائدة أدبية وزّعت عبرها مئات الكتب الأدبية والفكرية والنقدية مجاناً ، وقد جاء المهرجان إحياءً للذكرى الثالثة لرحيل الكاتبة الشابة زهر قبلاوي ، التي قضت غرقاً في قوارب الموت وهي تسعى لحقها في حياة آمنة .
تمحور المهرجان حول الأدب المقاوم وتضحيات المقاومين البواسل ، مُستضيفاً كلَّاً من الشاعرين القديرين إبراهيم منصور وأيهم الحوري كما تضمن المهرجان مشاركاتٍ لكلٍّ من الكتاب والكاتبات :
مريم الغريب
جودي منلاعي
لُبابة الغوش
حنين حمدوش
علي الغريب
هلا العقاد
هناء الدادة
كما شارك فيه كلٌّ من الشعراء :
أحمد حسن
سليم المغربي
أكرم صالح الحسين
عائشة بريكات
إيمان صباغ
يعقوب غبيس
افتتح المهرجان بكلمة للأديب والصحفي سامر خالد منصور مسؤول ملف الكتاب الشباب في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ، وبكلمة للشاعر أحمد حسن مُشرف الرابطة في دمشق .
اتسمت قصائد ضيفي المهرجان أيهم الحوري و إبراهيم منصور بتكامل المبنى مع المعنى و بالبلاغة والخيال الرحب الموظّف وقد قُدِّمَتْ عبر إلقاء آسر مُنتزعةً إعجاب السادة الحضور من مختلف الأجيال .
كما أحسن الكُتّاب الشباب بتناول ثيمة الشهادة و قِيمها بطريقة بانورامية ، حيث تقمَّص علي الغريب في نصِّه بعنوان ” في آخر ساعة من عمره ” شخصية الشهيد وتحدث بلسانه ، بينما تناولت هناء الدادة مأساة قوارب الموت ، وهكذا تتالت المشاركات كلٌّ بأسلوبه ، واستطاع المشاركون استحضار الشخصية العربية ذات الإباء والمُثل ومن جهةٍ أخرى استحضروا طابعها الإنساني الرهيف القيمي الأصيل فهي شخصية مُحبّة متمسكة بالوشائج العائلية ومحبة الآخر القريب والغريب ممن لا يريدون بها شرّاً ، وذلك في عصر تشييئ الإنسان .
أشاد السادة الحضور بقصيدة الشاعر الشاب المميز أحمد حسن ، وجاء المهرجان الذي قدمته الكاتبة نور الله الصالح دليلاً على التفاف الأجيال حول قيم النضال والإباء .
النصوص المشاركة للكاتبات والكُتّاب الشباب :
“أحياءٌ يُرزقون”
في حيّنا القديمِ كنتُ عائدةً من مدرستي إلى منزلِنا، وأهلُ حيِّنا يتهافتون باسم الشّهيد، يقولون بأنّهم سيأتوا بـِهِ، وكلّما اقتربتُ أكثر من منزلنا كانتِ الأصواتُ تعلو، أصواتُ بكاءٍ وزغاريدُ في آنٍ واحد، لم يخطر في بالي أنّ الشّهيدَ سيكون من منزلنا، أصبحتْ خطواتي متباطئة، وقلبي يرتجف، وصلتُ بعدَ شقاءٍ وعناء، وكأنّ منزلَنا يبعد آلاف المترات، رأيتُ الجميع كـُلّهم في هلعٍ من البكاء ولا أحد ينظرُ إليّ، وبوهلة قلتُ: من الشّهيد؟ فلا أحدَ منهم ينطق بالإجابة، نظرتُ إلى اليمين، كانت أمّي ثابتةً جدّاً، وتصلّي وتدعو لهُ بالثّبات، أمسكتُ بيدها، وقلت: من الشّهيد أجيبيني؟ فلم تردَّ عليَّ بحرف، ولم تكلّمني، وبخطواتٍ مسرعة ذهبتُ إلى أبي وسألتُهُ ذاتَ السّؤال، لكنَّهُ أيضاً لم يجب! جلستُ في مكاني بخيبةِ أمل، كلّهم في حالةِ هلعٍ وبكاء ولا أحد يجيب من المتوفّى، جلستُ أبكي، رثيتُ نفسي، صرختُ! هل أنا الّتي متّ؟ أتاني صوتٌ من خلفي، أنتِ من توفّاكِ الله لكن بشكلٍ آخر، ققد شهدَ أخاكِ صاحب العشرون عاماً، أنّ شريعة الله أثمنُ من حياتهِ أجمع، وافتهُ المنيّةَ، وذهبَ إلى دارٍ خيراً من ديارهِ، ومن ذلك اليومِ لم يبرحْ أخي من ذاكرتي وقلبي، السّلامُ عليك طبتَ ميتاً وحيّاً، كثيرٌ من الشّهداء الّذين وارت أجسادَهم الثّرى لكن في قلوبِ أحبّتهم عاشوا كما عاش أخي في قلبي ولم يمت.
بقلم مريم الغريب.
“هلاك”
خُيِّمَ من مصدرٍ ما، وعاءٌ بلاستيكيٌّ رمتهُ أمواجُ الفجيعة، ما الّذي حصل؟ أتخبّطُ بجهاتي الأربع وقد اقتحمَ البردُ جسدي، برودةُ الحادثةِ الأليمة، أم برودةُ الحواسِ لا أدري، لكنّني بطريقةٍ ما، ما زلتُ أتذكّرُ منزلةَ البلوى، هناك… عندَ البقعةِ الّتي جرّدها الكونُ من اليابسةِ، بقعةٌ يقصِدُها العالمُ أجمع… ونحن، فقد كنّا الشعبَ الملحودَ تحتَ هذهِ الوِجهة!
جمَعنا والدي ليلاً، وأخذَ يُحدّثُنا عن سبلِ العيش، تناقشنا كثيراً فمرّةً هُزمنا و مرةً هزمناه، إلى أن اتّخذنا حُكمَ الرّحيل -ظنّاً منّا أنّنا سنعيش- عَصَبنا الأمتعة، وحدّدنا يومَ التّفاد، لم نكن نعلَمْ أنّ الرحلةَ بعيدةٌ عن كونٍ كهذا، عن كونٍ صرخنا بأنّهُ السّبيل، صعدنا القارب، و لسنا نَعي عمقَ التّرحِ المُنتَظر، موجةٌ فأُخرى، وإذ بِثُقبٍ زحزحَ الأمان، المياهُ تحتي، والغرقُ دمّرَ المكان، ما الّذي يحدث؟ حقائبٌ تُرمى هنا و هناك، أمّا القارب، فقد وُزِّعت أخشابهُ خَلاصاً للرّاحلين، يا لهولِ الكارثة! أمٌّ تربطُ بذراعيها ولدين، والأبُ يصرخُ من هولِ الّذي كان، هُتافاتٌ سرَت في مسمعي، وشمسُ المغيبِ تقبضُ روحَ النّهار، إلى أن خُيِّمَ من مصدرٍ ما، وعاءٌ بلاستيكيٌّ رمتهُ أمواجُ الفجيعة، رفعتُ جفنيّ فأدركت!
عائلتي؟ أين هم؟ أُناسٌ صارت فوقَ المياه، أحرّكُ يديّ؛ أحاولُ أن أسبحَ باحثةً عن شخصٍ ما يعرفُ إخوتي، وبأعلى صوتي أصرخ: مُراد، أسيل، فيأتيني صوتٌ طغى على صمتِ المكان: أنا هنا! هلعتُ بجروحي و تحمُّلي، مُراد هل أنت بخير؟ عطشان، أرجوكِ عطشان، تحمّل أرجوك، أينَ أسيل؟ هناك، عندَ بقايا القارب، سبحتُ إليها بكلّ قواي… وصلت، أسيل، هل تسمعينني؟ قولي لي أنكِ بخير، أخذتُ حذاءكِ البارحة، أعتذر الآن ضاع، أعدكِ عندما نصل سأجلبُ لكِ بدلاً عنه، أسيل! أجيبيني، قولي لي أنكِ لن تغضبي مني، لا جواب، و لا حتّى أيُّة ردّةِ فعل، أُقبِلُ عليها و لا أريدُ أن أصدّق، أتجسُّس نبضها، فأُهزَم! لا تتركيني وحدي أرجوكِ، ماتت! و ماتَ معها حتّى الحذاء، أعاودُ الصُّراخ، مراد! أتيت، جلبتُ لك الماء، لماذا لا تُجبني؟! لماذا أنتَ ساكن؟ قم واشربِ الماء، مات! ماتَ عطشان، فركتُ عينيّ، ما زلتُ لا أصدّقُ الّذي حصل، فركتُ عينيّ و رحتُ أسيرةَ المياه، إلى أن تغلغلَ التّصّلّبُ جسدي، فتحتُ عينيّ، أمي، أبي! “توفاهم الله” قالها رجلٌ ينظرُ إليّ، فأصمت، إلى الآن، وقد مضى عامان، لا زلتُ لا أعلم، إن كانَ قد هُدِمَ صوتي، أم أنّ صوتي قد هُدِمَ في الحياة!
بقلم هناء الدّادة.
“ثمنُ الحياة”
كانتِ المرّة الأولى في حياتي أُعانقُ التّراب، شعورٌ كهذا يُدرّسُ بالكُتب، أن يحنَّ الغصنُ إلى جذعه فيميل وينحني، تتراقصُ الملائكةُ من حولي… أمّي هنا، والدي هناك، وكبدٌ يمشي بين أرجلِ الجميع ينادي”أبي”، زمّلوني زمّلوني بترابِ منزلي المهدوم، فصقيعُ خيمتي أصابَ دمعتي بسيفٍ سليط، ما لكم؟! أرى الثّريا تتلألئ فوق خدودكم، لا تحزنوا أنا بخير، ولكن أرجوكم لا تهدروا دموعكم، اسكبوها بكأسٍ وقدّموه هديّةً لطفلي واكتبوا على شاهدةِ قبري، “توفّي شهيداً حتّى لا يُحمّل قبيلته عبء تغسيله” فأنا من سيدفع فاتورة عشائي الأخير، فتوفير الماء هنا أصعب من الحياة على أمل شتاءٍ يغرقنا بسيلهِ، أتعلم ؟! أظنُّ أنّه لا أحد هنا يسمعني، ها قد عاد الجميع، وأسدلَ الليلُ حلكتهُ من جديد، شعرتُ بحمامةٍ قد نامت على جفن قبري وأخدت تمسحُ على حنايا وجهي برقّة، فعرفتُ أنّها أمّي تواسي نفسها بدعائي؛ عندها أغمضتُ عينيّ ونمتُ ونامتْ بجانبي القيامة.
بقلم لُبابة يحيى الغوش .
“طيف الدّماء”
دمٌ مسفوك، ورصاصةٌ حشرت رأسها في جسدٍ ظنّتهُ الجنّة، شجاعةُ شهيدٍ خمّنَ كم رصاصة ستخترق جسده؟! كيف تدرك هذا وأنتَ وأسفاه لست عربيّاً؟ تعالَ أُريك كيف تموت حاملاً السّلام في روحك؟! كيف تمشي للمصير الآخير بينما تخلّف وراءك خوفًا مات في إصرارك؟! كيف نفهم معنى أنّ نزف شهيدًا؟؟ حزن عميق يبدو أنّه لن ينتهي! بلدي منهك وبالكاد يتنفّس، يفكّر بالشّوارع الّتي عرفتْ رائحة الدّم قبل النّصر، وغضب عيون الرّجال وقهر قلوب النّساء، وأحلام أطفال ماتوا قبل أن يحقّقوها! وعويل يعقب بعد كُلّ رصاصة أُطلقِت! أيُّها الحرب ارجع إلى دياركِ، وردّ لنا ما كان وعليكَ السّلام.
بقلم حنين سامر حمدوش.
على لسان الشّهيد في آخرِ ساعةٍ من عمْرِه:
“ساعة”
كنتُ الرّائي والرّاوي معاً، وفي الوضعِ الرّاهنِ كانَ عليَّ وضعُ جنودٍ حولَ وسادتي، خوفاً من تفخيخِ الأحلام! لم أكنْ أعلمُ أنَّه الأخير، لقد كان صباحاً أسودَ وليلاً يخشاهُ حتّى الذئب! والدّخانُ يرتفعُ من دم الجثث، الميّتُ ذاتُه لا يدري أَماتَ محروقاً أم مذبوحاً؟ يبدو أنَّ الفحمَ يلمعُ عِندَ حريقهِ، من يعودُ سالماً إلى أهلهِ في تلك اللّحظة سيعيشُ في وهمٍ، النَّفَسُ الذّي يخرجُ لن يعودَ، الهواء ذاتُهُ خشيَ الاقترابَ من هناكَ عندما رأى أنَّ كلَّ ما يقتربُ سيعبرُ وهو مقطوع، هي لحظةٌ رَمَلَ بها الغدرُ رويداً رويداً، هدوءٌ يخشاهُ الميّت، ودمٌ ف غطّى الارضَ، ودمعُ نساءٍ و صريخُ أطفالٍ، وجثثٌ كالطّفلِ اللقيطِ، وأخاكَ تشهدُ مصرعهُ في عينكَ وحضنكَ، روحٌ على طريقِ السّفر وملكُ الموتِ أمامَك في ذهابٍ وإيّاب، والأرواحُ المتبقّيةُ كأنَّها جُذامة الحقلِ، واهتزَّتْ حروفُ البندقيّتين لا أحدَ يستطيعُ حمايتكَ، كمرسالٍ في يدِ ساعٍ أخرسَ أعطاهُ لقرّاءَ عميان، صديقٌ يقولُ اهرب، وآخرُ يصرخُ ابتعد، القائدُ يأمرنا بالانسحاب، لكن! ما كان يدورُ في عقلي هو فقط كلامُ سيّدي عندما قال: -ثلاثُ مراتٍ- “ليسَ من الضّروريِّ إكرامُ كلِّ دخيل، فالدّخيلُ لظلمِ الوطنِ يجبُ طردُه” وذاكَ هلالٌ صغيرٌ في وجهِ ضبابٍ ودخانٍ، كان يحملُ هدوءَ القنّاصِ لكنَّهُ أصبحَ متوتّراً كمشيةِ القلم، سعيد(صراخ والتفات) أ( تمثيل لحظة إصابة )
هي بالنّسبةِ لصديقي رصاصةٌ في كتفهِ لكنَّها بالنّسبةِ لي كسحبِ روحٍ من جسدِ الكافر، ألم نتعاهد على أن يكونَ الرّصاصُ هو ماؤنا؟ إذاً كيفَ أنتَ يا محمود أولَّ زرعٍ يذبلُ من الماء! انظر إلى سوارِ من تحبّ لقد غطستْها الدّماءُ، فانظرْ إلّيها لعلَّك تنسى، -إصابتي أنا عند التّكلّم- أوّلُ رصاصةٍ في جسدي مِثْلُ الّذي باعَ عينَهْ؛ ليرى أُمَّهُ المريضةَ بفقدانِ الذّاكرةِ فتقولُ لهُ: من أنت! الألمُ في جسدي كالبدوِ المتنقّل، الألمُ ليس في مكانٍ واحد بل إنَّه يتنقل، تذكّرتُ همّي وحلواي في صغري والآن، كُنْتُ أَظُنُّ في صِغَري أنّني سأبقى ذي أشلاءٍ متراكبةٍ مع بعضِها البعض، أخوضُ بها حرباً مع من فافقني عُمراً من أَجلِ حلوى، أو قطعةٍ موسيّقيةٍ بريئةٍ تُدَاعِبُ أُذُني، أمَّا الآن: فأصبحتْ أشلائي كأنَّها تَعرَّضَتْ لاستقامةٍ قسريّةٍ على وَتَرٍ موسيقيٍّ، فَزَعَ من صدماتٍ كهربائيّةٍ أصابتْ دقّاتِ قلبِ من كان يُقَلِّبُ قَلْبَهُ على ما قُلِبَ في حياتِهِ عليه، فماتتِ الصّدماتُ واشترى العازفُ غيتاراً جديداً وبقيتِ الأنغامُ القديمةُ رُفاتاً على خيالِ الوتَرِ الّذي ما زالَ يشتهي الحلوى، العمدةُ في رقبتِهِ قريةٌ يرعاها عقلاً وحالاً، والمدينةُ كاملةٌ في قلبي أرعاها شوقاً وفِراقاً؛ لذلكَ لم أكترث لروحي من أجلها، أنتَ من تسمع يمكنُكَ رفعُ السّماعة، أنتَ سمعتَ روايةَ شّهيدٍ قبلَ ساعة، من ضحّى من أجلِ وطنِهِ، ما أضاعَ عمرَهُ هباءً بل صاغ الإنجازَ صياغةً، ربعُ سّاعةٍ… نصفُ سَّاعةٍ أتتِ الشّهادةُ، انتهتِ السّاعة، فاستيقظَ الرّائي يا وطن على شهيد لم يرضَ بالظّلم، ولا تسألِ الرّائي كيفَ قاتلَ الشّهيد، فهو ذاتُه غيرَ مقتنعٍ بما جرى!
بقلم علي الغريب.
“بلا عنوان”
لا رثاءَ لشهيد، الشُّهداء يبقون في القلب، إن الشَّهيد لا يُرثى، فإنّ لهُ دارًا في جنّاتِ عدنٍ، من جاد بالرّوحِ في الدّنيا، فَكان لهُ روحاً تُحلّق عِند اللّه باريها، يا واهب الرّوح: إن الرّوح باقيةٌ، الجسمُ يُفنى والرّوحُ في أعاليها، الأرضُ تشهدُ والدّنيا بِما رحبتْ، والشَّهيد دمهُ عطرٌ فيها، ففي كُلِّ قطرةِ دمٍ تنسكب، فكَثُرَ النَّزفُ في البِلاد، وامتلَأت أَكوابُها بالدّمِ على طاولةِ إثباتِ الوجود، تَجرّعت البِلادُ أكوابَ دِمائِنا، وخَرجنا من ينابيعِ الدّموعِ وجُدرانِ القَهر، نُخصّصُ لِلمجدِ عَناوين الصّفحاتِ في التّاريخِ، فلا شيء في الدُّنيا يُجازيها، فورثت أرضاً عن الأجدادِ أورثها، نحنُ لم نفتقدكِ وحدكِ، نحنُ فقدنا معكِ أفراحَنا وضحكاتِنا، نفتقدُ الدّفء الّذي كنتِ تملأينه أينما حللتِ! أنتِ لستِ بيننا، وهناكَ صَوت حزينٌ في أعماقنا يودُّ أن يقول لكِ: “كلّ عامٍ وأنتِ بيننا، وأنتِ خيرُنا وخيرُ من حلّ على بلادنا”، لكن علينا أن نستبدلها بقول: ” إنّنا نتمنّى لكِ السَّعادة العظمى عِند الله يوم ملاقاته”، كُنّا سَندعو لكِ هَذا العام بالسَّعادةِ والفَرح، وها نحنُ نَدعوا لكِ بالمغفرةِ والرّحمة وأن تتنعّمي بفسيح الجنان، لا نستطيع أن نتذكّر ما الذّي كَانَ يحزننا قبل رحيلكِ! لَكن هناكَ يقينٌ داخلنا يُخبرنا بأنّهُ كانَ علينا أن نتدرّب على المَوت معكِ ولكنّنا لم نفعل، أغفلناهُ فغافلنا! تجاهلناهُ فضربنا بقسوة، يا ليتَ لو أنّ الأعمار تُجدّد أو تُعار، ليتَ لو أن الرّجال تُفدى بالأعمارِ، تعال أُرسيك كيف تعرف أن تموت حاملًا سَلام الله في رُوحك، كيف تمشي للمصير الأخير؛ بينما تُخلّف وراءك خوفًا مات في إصرارك! كيف تفهم معنى أن تَزُفّ شَهيدًا وَتصوّر شَهيدًا؟ وبعد غدٍ تشتهي الموت فتموت بكلّ خشونة .. شَهيدًا؟ كيف تُرشد التّائهين حيثُ أنت؟ كيف تلهج الحَرب فيك وكيف تعلو شامخًا وأنت هُنا، تحت التُّراب؟ كيف ترفض يا ولدي المَوت فتموت في آنه؟ كيف تبتهج ناظرًا في سَقفِ حافلة يطيرُ مثلاً؟ تعال أُعلّمكَ كيف تلتحم لأجل تلكَ البلاد، كيف تدرك منطق الشّهيد، كيف لا تخاف وأنتَ تتقدّم حيث الرّصاص وكيف تواجه القصَاص، كيف تُشعل النّيران وتُخمدها بإصبع واحد، كيف تفعل المُعجزات وترحل تاركًا خَلفك دروسًا للصّغار! تعال أُخبرك كيف تغادر العَالم بإضاءةٍ، وكيف تُغتّي فتخاف البُندقيّة، كيف تكتُب فتموتُ القنابل، كيف تقف فتهتزُّ الأرض، تعال يا ولدي أعلّمك معنى أن تكون فلسطينيًّا.
بقلم جودي منلاعلي.
“ولا ينام الشوق”
قمة الألم الشنيع
بأن تكون بنصفِ شيء عالقاً
في حد سيفٍ تحتَه لهبُ الشموع
وبدرعِ عقلكِ تحتمي
تغلي كما البركان
تَغلي
كيف لا ؟!…
وعلى البطيءِ الشمعُ يُغلي
ثم تنصهر الدروعْ
أو أن تكونَ مع الحبيب وأنت شخصٌ عاقلٌ
فإذا اقتربتَ فمذنبٌ
وإذا ابتعدتَ فنارُ شوقكِ
والدموع.
بل قمة الألمِ الشنيعِ
بأن تكون بنصف شيءٍ
لا ترى برَّ الأمان
مع التقدم
أو ترى شط انطلاقك
في الرجوع
بل قمةُ الألم الشنيع
بأن تكون أسيرَ ماضٍ أو فقيراً
ثم تعشقْ
أو أن تُرى ذاكَ الحليم
منَ الهدوءِ وأنتَ
تُحرق
أو أن تجازفَ في المحيطِ وتركبَ الأمواج فيهِ
موجٌ يمر…
ولا يضرك ما يليهِ
ويمر قربكَ…
عن يمينكَ ألف زورق
لا يهمكَ
ثم بالعينينِ
تغرقْ
قمة الألم الشنيع بأن تُرى ذاك الحكيمَ وأنت أحمق
أن يحسبوك مع الحبيب ولا حبيب
وتعيش من طول الفراق معَ الفؤاد بلا وجيب
أو أن تعانقَ أو تذوبَ ولا تُذيب
وتكونَ عانقتَ الوسادةَ لا عشيق ولا قريب
قمة الألم الشنيع
أن يتركوكَ ويهجروك ويطعنوك وما يزال على القلوب وفي الضلوعِ
لهم دبيبْ
بل قمة الألم الشنيع
بأن تحط على الوسادةِ بعضَ أطنان الحطام
تبقى تقاومُ ألفَ ذئبٍ من تراجيع الغرام
وتلمَّ خيبتكَ الفقيدةَ
لا رفات ولا رِمام
هي قبلة أو ضمة
هي وردةٌ وهدية
هيَ ما تبقى
من معاركِ عشقنا
هي روحنا
هي كل ما يحلو لنا
بعد السلام من الحروب وأينَ من حربي السلام ؟!
أو أن تنامَ ولا تنامَ
أو أن تقولَ بلا كلام
أو أن تكونَ على حسابِ المُغرَمين بلا غرام
ويموت قلبك لا حنان ولا جنون ولا أمانَ ولا مجونَ ولا وئام
ويموت قلبك ثم يفنى مثلما يفنى الأنام
مَن ماتَ من يومٍ كمن قدْ ماتَ مِن مليون عام.
وتصادقَ الأشباحَ من فرطِ اللقاء…
وتضيعَ…
وتضيعَ لا أرضٌّ حوتكَ ولا تُظلُّكَ مِن سماء.
ما عدتَ تعرفُ
ما الشروق من الغروب وما الصباح من المساء ؟
ما عدتَ تعرفُ
ما الفراق من اللقاء وما الذكاء من الغباء. ؟
ما عدتُ تعرفُ ما عرفتَ وما جهلتَ وما تخفَّى في الخفاء.
وتنام
ولا ينام الشوق
يسبقُكَ اشتياقك للمنام
بقلم يعقوب غبيس