ثقافة وفن

سَلاسِلُ الوِحدَة… قصي الطُبَل

رسمتُ دائرةً تَحتَويني؛ لكنّها ضاقَتْ ثُمَّ ضاقَتْ حتَّى باتَتْ تَخنقُني.

أروي لكُم قِصَّتي اليَوم في زاويةِ الوِحدة، وأتمنَّى أن تصِلَ أفئِدتكُم عَسى ألّا يَتكرّر خطَأي مَع أحدٍ منكُم:

منذُ البدايةِ كنتُ الطِّفل الأوّل لعائلةٍ مكوّنةٍ من ستةِ أفرَادٍ، فرحتهُم بقُدومي كطفلٍ ذَكَر ليستْ كَفرحَتي بأنَّني الرَّجل الوَحيد بعدَ أبي في هذا المنزلِ، وفي ذلكَ الوقت حُكِمَ عليّ بالسِّجن بينَ أربعةِ جدرانٍ ليسَ لشيءٍ، إنَّما خَوفاً من أن تمسّني أشِعَة الشَّمس فأنَا أحملُ اسمَ أَبي وليسَ في هذا القفصِ شابّ لهُم سِواي، لا مُشكِلة، اعتَدْتُ أن أكلِّمَ وِسَادَتي، وأن أناقِشَ أفكَاري مع سقفِ غُرفتي وأن أضعَ قدَماً على قَدَمٍ،

وكمَا أنَّني اعتدْتُ أن أحتَضِنَ زُجاج غُرفتي مُراقباً أبَناءَ جِيلي يلعبونَ بالكُرَةِ كُلَّ يومٍ، ولكن في ظلِّ كُلّ هَذا التأمُّل هنالكَ بعضاً منَ التّساؤلاتِ الّتي مَا زالتْ تدورُ فِي رَأسي:

مَا شعور اللّعِب بالكُرَة؟!

وماهيَ سرّ تلكَ الضّحكات الّتي تَتَعالى؟!

وهَل يُحادِثُون أورَاق الكُتب مِثلي؟!

رُبمَا قد أحصُل على إجابةٍ لكُلِّ مايدورُ في عَقلي يوماً مَا.

ولكِن لحظَة أسمعُ صَوتاً يُناديني من دَاخِلي وَيقول:

كلُّ بعيدٍ يُصبِح قَريباً، التَزمْ الصَّمت، فإنّ موعِد التّفَكُّك قَريب.

هَذا الصَّوت يُخيفُني، هَل يُعقَل في يومٍ من الأيَّام أن أعتزلَ غُرفتي وكُتبي لأمشي في هذهِ الشَّوارع؟!

إنَّ التَّفكير بهذا الأمرِ فقط يُشعرني بالخوفِ، فمَا بالكَ لو حدَثَ فِعلاً، كُن هادِئاً فكلّ شيء سَيكونُ على مَا يُرام، إنّه مجرّد خيَال ليسَ إلَّا، لرُبَما يكونُ حقيقة يَومَاً مَا.

يتكرّرُ نفس المَشهد يوميَّاً، لاتَغيير، أُراقِبُ الأطفَال من زجاجِ النَّافذةِ، وأستَمتعُ بمشاهدتِهم وأكتبُ ما تراهُ عيوني، وكأنَّني أُشاهدُ فيلماً عنوانهُ:

( لا بُدَّ للطُّيورِ أن تحلِّقَ يَوماً)، ولطَالما في مُشَاهدتي لهذا الفِيلم يلفتُ انتبَاهي فَتاةٌ صغيرة ذات شعرٍ بُنيّ جذّاب، تلمعُ عيونها البَريئَة تحتَ أشعةِ الشَّمسِ، أتأمّلها وأكتبُ تفَاصيلها بعمقٍ؛ وكأنَّها مَخطوطَة أثريَّة لم تولدْ إنَّما تمَّ اكتِشافها في إحدى المَعالِم الأثريَّة، أكتبُ وأكتبُ لا أُبَالي لصوتِ الضَّجيجِ من حَولها؛ لكنَّها دائِماً كَانت تشعرُ بأنَّ أحداً يُراقِبها، فأرَاها تلتَفِت على كُلِّ الأبنيةِ المُجاورةِ، فأسدلُ السّتارة سَريعاً، وأركضُ لِزاويَتي خَائِفاً مُمسكَاً قَلمي وأورَاقي بِشدَّة حتَّى تَنثَني الأورَاق فوقَ بعضها دونَ أن أشعرَ، وما أن تمرَّ أصوَات ضَجيجهم وتَختفي حتّى أعودَ لأَطمَئِن عن طريقِ النَّافذةِ بأنّهم ذَهبوا إلى بيوتهم قبلَ غروبِ الشَّمس، فأرتَمي على سَريري مُخرجاً زَفير الرّاحة، وأُعيدُ تَرتيب أورَاقي الّتي تداخلتْ ببعضها البعض، حتّى أجمعَ أفكاري، بانتظارِ اليَوم التّالي ولكيّ أحدّدَ المَشاهد الّتي سَأُعاينُها.

 

يَوم بعدَ يومٍ لا اختِلاف، لكن اليَوم العاشِر من الشّهر الأوّل ليسَ بِعاديٍّ أبداً، إذ أن كُلّ ماحَدث هو التّالي:

كنتُ أرقبُ حَركة قَدميها وهي تركلُ الكرَة بعيداً؛ لكنّ الكُرة عن طريقِ الخَطأ ارتمتْ عَالياً لتتوجّه نَظرَاتها إلى نَافذتي، وتَرى من كانَ يراقبها كُلّ يومٍ سقطتْ الأورَاق من يدي اليُسرى، والقَلم من يدي اليُمنى وشعرتُ بأنَّ الزُّجاج وكأنّه قد كُسر من أمَامي لشدّة جمال عينَيهَا،

وبعدَ عشرينَ دَقيقة من التّأمّل لوحتْ لي بيدها، وأشارتْ لي حتّى أنزلَ إليهم، فخرجتْ كُتلة الدّموع السّاخنة من عَيني لتنسكبَ على خَدي وتَتساقَط على أورَاقي فَتحرِقها، أرفعُ يدي وهيَ ترتجفُ مودِّعاً لها، وأنا أغلقُ السّتارة من جديد، لأسقطَ على سَريري مُتعباً من هولِ ما شاهدتُ، وأنامُ بِبُطءٍ شديدٍ؛ وكأنّني قد حصلتُ على جرعةٍ من الأملِ عُمرها خَمسة عشرَ عاماً، وبعدَ نومٍ عَميق أسمعُ باب بيتَنا يُطرَقُ، لأستيقظَ ماسِحاً على وَجهي، واضِعاً أذني على بابِ غُرفتي لأعرفَ من الطَّارِق، إنَّهُ صَوت ناعِم جذَّاب:

الفَتاة: مَرحباً عمّي.

أَبي: أهلاً يابُنيّتي، تفضّلي.

الفتاة: شُكراً عمّي؛ لقَد شاهدتُ شابّاً لَطيفاً، وَأودُّ أن أدعوهُ ليُشارِكنا لعبَ الكُرة.

أبي: حَسناً يابُنيّتي، انتَظريني لأُنادِي عليه.

(أسمعُ صَوت خُطوات أبي وهي تَتّجه نحوَ بابِ غُرفتي)

أبي: يَا بُني هنالكَ فتاة على البابِ تريدُ منكَ أن تخرجَ لِتلعب معهُم بالكُرَة، فمَا رَأيك؟!

أنَا (بصوتٍ خَجول): كما تريدُ يا أَبي، لكن قُلْ لها بأنّني أهوى اللّعب مع الطّيورِ، وبأنّني أريدُ تَجربة هذهِ الضّحكات الّتي أسمعها كُلّ يومٍ.

أَبي: حسناً، هيّا اخرجْ فقَد سمعتْ ماقلتهُ لهَا.

 

ولأوّلِ مرَّةٍ أفتحُ بابَ غُرفتي لأُصدم برائحةٍ فوّاحة؛ وكأنَّها أشبهُ برائحةِ يَاسَمينتي الّتي زَرعتها منذُ فترةٍ في غُرفتي، متوجِّهاً لباب المَنزل، وأنا في شدّةِ خَوفي من الَّذي سُيقابلني عندَ وُصولي للبَاب، أتعثّرُ بأثاثِ المنزلِ وكأنَّ نظَري قد سَقطَ في آخرِ نَظرةٍ لي من خلالِ النّافذة.

إنَّها أمَامي مباشرةً، وكأنّها كما عرفتها، ولكِن هناك تفَاصيل جَديدة أرَاها في كُلِّ خطوةٍ أتقدَّم نَحوَها، وقَد لفتَ انتباهِي بأنَّ خَدّيها يَحملان بُقعاً بنيّةً صَغيرة من النَّمشِ، شَبّهتُ هذه البُقعِ بِقَطراتِ النّدى الّتي تنزلقُ على أوراقِ الوردةِ الجوريَّة الحَمراء،

وبصوتٍ طفوليّ:

الفَتاة: مَا اسمكَ؟!

أنا: اسمي شَبيهٌ باسمِ الغُيوم، وأنتِ؟!

الفتاة: اسِمي هوَ لَون السَّماء، دعكَ مِني وَاعطِني يَدكَ لنخرُج.

تُمسِكُ بيديّ لتجرّني إلى مدخلِ البناءِ، وفي كُلّ درجةٍ من أدراجِ السُّلم، أشعرُ وبأنَّ كُلّ سلسلةٍ مَعقُودَة حَولي تُكسَر، حتّى أُلامِس هَواء الزّقَاق في حارتِنا لأشعرَ بأنَّ رُوحي تُمتَلَأ بجُرعٍ من الشَّغف الّذي فقدتهُ منذُ زمنٍ طَويل.

 

والآن أقولُ لكُم: بأنَّ هذهِ لم تكُنْ النِّهاية، إنَّما كانتْ مجرَّد بِدايةٍ لعَالمٍ تشعرونَ بهِ بِنوعٍ من الأمَلِ، لذلكَ قصدتُ في مُقدّمتي أنْ أُهيّئ مَشاعركُم لنهايةٍ حَزينةٍ مُرَّة، لتكونَ مُفاجَأتكُم بأنَّ كُلّ شَيء تحصلونَ عليهِ في حيَاتكُم هو مَا تَطلبونهُ، واعلَموا بأنَّ قِصَّتي لم تنتَهِ؛ إنَّما الأمَل باقٍ لا يُمحى كالذَّهبِ كُلّمَا شُكِّلَ بشكلٍّ مَا صُهرَ ليُشكّل بشكلٍ آخر مُختَلف عن مَا قبلهُ، ورُبما أجمَل من السَّابق، تشَبَّثوا بجُدرانِ الأمَلِ واكتُبوا عليها: “رِسالةٌ مُحتَوَاها حُبّ وسَلام فهَذَا هوَ الحَلّ الوَحيد لنتَخطَّى بهِ كُلّ شيءٍ يُذيبُ شَغف أروَاحنا.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى