ثقافة وفن

الابداع  والأمراض النفسية وحداد الشعب اللبناني .. إعداد د. عباس حسن وهبي

إعداد د. عباس حسن وهبي
البعض يقول إنّ الابداع قد يُسبّب الأمراض النفسية وبالأخص الاكتئاب ! ولكنّ هذا الأمر لا يُطابق الواقع العملي لأنّ بعض الأمراض النفسية على غرار الفصام هي التي قد تؤدّي عند بعض المرضى إلى الابداع :
“حاول بعض الباحثين النظر في العلاقة بين الفصام والإبداع ، فبعضهم تحدّث عن جينٍ مشتركٍ بين الفصام وذوي التفكير الإبداعي ، ولكنّ هذا الأمر لم يُثبت بعد…
فمن الاعتقادات الشائعة لدى البعض أنّ هناك علاقة بين التميّز الإبداعي ومرض الفصام والشهرة وحب الظهور، حيث يقولون لمن أجاد في عمله لاسيما الوظائف التي تتعلق بالإبداع الخلّاق « لقد انفصم وأجاد » ، كذلك يتم الربط بين انزواء المريض وخلوته مع نفسه بأنها نوع من التميز واستحضار الإلهام خصوصا أصحاب المواهب التشكيلية
. وبعض الناس وجدوا في الإنتاج الفنّي لبعض مرضى الفصام شيئا من غرابة التطرف في طرح رؤيتهم والخروج عن المألوف ، فاعتبروا ذلك دليلاً على إبداعهم وكلّها حالات فردية، وعادة ما يكون هؤلاء الأشخاص من ذوي الشخصيات الفصامية.
وبعض الناس ذكروا أنّ انعزالية بعضهم يعطيهم فرصة لمراقبة الأحداث عن بعد وبشيء من التركيز أكثر من غيرهم نتيجة انغماسهم في أحلام اليقظة ، والتي يأتي عنها بعض الأفكار الخارجة عن المألوف.”و على الرغم من هذه الدراسة الصادرة عام 2010 م إلاّ أنّ هناك الكثير من الاثباتات التي تؤكّد مصداقية أنّ بعض الأمراض النفسية “و منها الفصام” لها دورها الكبير في الابداع !ومن ذلك نذكر نادي الحشاشين الذي انشأه الطبيب الفرنسي مورودي تور الذي كان يعمل طبيباً نفسياً في مستشفى بيسيتر لعلاج الأمراض العقلية في فرنسا بالتعاون مع صديقه الرسام بوازار في القرن الثامن عشر والذي كان من روّاده كبار الكتّاب الفرنسيين مثل : بودلير و بالزاك و فلوبير والكسندر دوماس الذي كتب رواية الكونت دي مونت كريستو …إذ استعان أولئك المبدعون بالحشيشة لخلق هلوسات و أخيلة تساعدهم في إبداعاتهم رغم خطأ هذا الأمر لأنّ كلّ المخدِّرات قد أُثبتت تأثيراتها السلبية الحتمية على الانسان و صحته ، ولكن هنا أستشهد بهذا الأمر لكي أبرهن أنّ الحالة النفسية أو الحالة المرضية المكتسبة والتي تمخّضت عن تناول المخدّر قد حفّزت على الابداع ، فكيف إذا كان هناك من الأمراض النفسية الوراثية التي سبّبت العديد من الابداعات عند كثير من العظماء نتيجة ازدياد مادة السيروتونين في أدمغتهم من ناحية، و نتيجة إضفائهم لأخيلة و لامبالاة لا بل شجاعة سبّبها المرض نفسه في اجتياز المألوف من ناحية أخرى ؟! وفي الوقت نفسه هذا لا يعني أنّ كلّ مبدعٍ هو مريض نفسي …ولكنّ القول أنّ فشل الفنان في الوصول إلى الابداع قد يؤدي إلى الاكتئاب فهنا يجدر التمييز بين الاكتئاب كحالة أو كردّة فعل نفسية عابرة، و بين مرض الاكتئاب ، وحنى أنّ الباحثة د. كوزيت معيكي فضّلت استعمال مصطلح الحداد بدلاً من الاكتئاب في دراسةٍ لها ، ” والحداد هو بلوغ الحزن العميق ليس على فقدان حبيب أو شخصٍ عزيزٍ فحسب بل وعلى فقدان أمور هامة في الحياة و من ذلك نذكر وطن أو عمل أو أيّ شيء عزيز على الانسان ” إذ إنّ الحداد يمرّ بأطوارٍ من الحزن العميق ومن ثمّ الغضب ومن ثمّ قد يصل إلى اللامبالاة عند البعض، أو محاولات الهروب نحو الابداع عبر الانغماس في إنتاجاتٍ علمية أو أدبيةٍ أو فنّيةٍ أو غيرها… ومردّ ذلك للتكوين العكسي Formation réactionelle الذي قد يرتدّ إيجاباً فيسدل ستاراً من الجمال أو خلق الجديد المجدي والنافع ، أو يدفع بعجلة التطور العلمي ، وقد يرتدّ سلباً على غرار ما يحدث في لبنان على سبيل المثال لا الحصر ، فنرى ثورات الجوع والاعتراض وحتّى العنف المبرّر و غير المبرّر … فاللبناني يعيش في حالة قاتمة قد فقد خلالها الحلم والأمل ، و راح يعيث به الألم والنقمة على الذين عاثوا بالوطن على الأصعدة كافة فانتفض حانقاً لعلّه يفتح كوةً في جدار اليأس ! وهذا إبداعٌ من لونٍ آخر ، فالعنف الثوري الغائي المنظّم هو طريق الوصول للتغيير على غرار ثورة الامام الحسين “ع” والثورة الفرنسية ، وثورة القديسة جان دارك ، والثورة البلشيفية ، وثورة الامام الخميني “ق” وغيرها من الثورات التي حقّقت تغييراً جذرياً في حياة الشعوب فانبرى إبداعاً خلّاقاً في دكّ حصون اليأس والقنوط والإحباط لا بل الحداد على الوجود في غابة الكون، فجعلوا الدنيا وقفة عزٍّ والكرامة علماً مرفرفاً والعدل قاضي الحياة ، والسيف فتى النضال الأغر…. نعم إنّ التكوين العكسي هو الموتور المحرّك ليس لتجديد الجمال وما تفرّع منه لا بل لا لتحريك عجلة التاريخ الذي حسب كارل ماركس يُجدّد نفسه مرتين لكنّ الثانية بصورة أفضل !
و حتّى الحديث عن أنّ المبدع يدفع ثمن إبداعه من ذاته مما يجعله يلجأ الى العقاقير لنجدة نفسه فهذا يدلّ على أنّنا نتكلم عن حالات خاصة مرضية ، وليس عن حالة شمولية لكلّ المبدعين …وأخيراً إنّ الوصول
إلى الابداع هو المحفّز الأوّل للشعور بالنشوة ، وبالرضى عن الذات لا بل باعتزازها والتي ترفع تلقائياً موصل السعادة في الدماغ ألا وهي مادة الدوبامين ، و عليه فإنّ أية مقولة تتحدّث عن أنّ الابداع يولّد الأمراض النفسية حتى لو تسلّحت بتجارب شعراء وفنانين فهي قد هوت في كمين الحالات الخاصة بسبب عدم مجاراتها للواقع ، ولأنّ هناك كثير من الدراسات التي وضعت الأمور في نصابها ولو بشكلٍ نسبيٍّ وأعني أنّ هذه النظرية لا تحتاج لبعض الأدلّة الفردية بل لها منهجيتها و تاريخها و تقنيات بحثها لا بل أبحاثها ….
وعليه بعد هذا السرد الطويل هل سيزداد الابداع في وطننا بعد أن ازدادت الأمراض النفسية ومنها الفصام والحداد على الوطن ، وبسبب معاناتنا من مرض كورونا في المراحل القادمة ؟ ! وحدّث بلا حرج …
13/06/2020

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى