أخبار النبطية
إبن النبطية نائب حاكم البنك المركزي في لبنان دكتور عبد الامير بدر الدين
كتبت حياة جابر
في دفاتر ذكرياتي جمعٌ من حوادث واسماء لكبار من النبطية , هذه المدينة التي هي بالنسبة لي كالمرآة التي ارى فيها وجهي وحلو مستقبل اولادي واحفادي , برجالها ونسائها افخر , وبمكانتها في لبنان الوطن اعتز .
لقد كتبت عدة مرات منوهة بوجوه ثقافية وعلمية واجتماعية واغترابية كان لها شأن وفضل , والحديث اليوم عن شخصية بارزة كبيرة معروفة في الاوساط الاقتصادية والثقافية في لبنان والعالم .. شخصية نبطانية وقامة مرفوعة , رجل العلم والثقافة والشهامة , هو :
دكتور عبد الامير بدر الدين نائب حاكم البنك المركزي في لبنان .
.
لمَنْ لا يعلم من هو ، وكثيرون في هذا الوطن لا يعلمون ، هو عاملي أصيل إبن النبطية مدينة العلم , تلقى علمه في مدرسة عبد اللطيف فياض , المدرسة الرسمية في البلدة , انتقل بعدها الى مدرسة الامريكان في صيدا , والى الجامعة الاميركية في بيروت لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية , والى اميركا و …
ليغرف المزيد من العلم والمعرفة نحو جامعة اوكسفورد ارقى واعرق الجامعات في العالم , حيث تابع دراسته حتى درجة الدكتوراه في العلوم المالية والبنوك المركزية , ودكتوراه في الاقتصاد حصل عليها بدرجة امتياز , لتحظى بحوثه واطروحاته أعلى درجاتٍ بين أقرانه …
.
عاد بعدها الى الوطن ليدخل المدرسة الشهابية , مدرسة الاصلاحات مدرسة مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي , فكانت شهادته جواز اختبار من قبل الراحل الرئيس فؤاد شهاب لحاكمية المصرف المركزي , ومن قِبل صاحب السمو الملكي الامير طلال بن عبد العزيز ليكون مستشاره في استثماراته وتوظيفاته المالية في السعودية , المدينة التي لجأ اليها وعائلته جراء احداث لبنان …
.
عندما بدأ الرئيس الراحل فؤاد شهاب ببناء دولة المؤسّسات . اختار د. عبد الامير نائباً لحاكم البنك المركزي ، دون وساطة أو شفاعة أو أي انتماء سياسي , فقط لأنّه رأى فيه الكفاءة العالية والنزاهة المفرطة . وكان في حدسه صائباً , ولم يكن محسوبا ولا على زعامة محلية , ولا على من كان يتحكم بالاقطاع السياسي ,,, ومن لم يستسيغوا ان يعين بمعزل عن الذين لم يتّفقوا يوماً إلا على الاحتجاج , احتجاجهم وئدَ على بوابة القصر الرئاسي في صربا …..
.عُين في مجلس النقد والتسليف بمرسوم رقمه 154 سنة 1959 , وعندما صدر قانون المرسوم تقرر اقامة مصرف لبنان وتعين وزير الخارجية فيليب تقلا حاكما والاعضاء د . بدر الدين وجوزيف اوغورليون وشفيق محرم ,, فاشتغلوا على بناء البنك وتأسيسه , وعين الامير نائب حاكم للمصرف المركزي عام 1963 , وعُين الياس سركيس حاكما بعدما استقال فيليب تقلا , وعندما تم انتخابه رئيسا للجمهورية عُين ميشال خوري مكانه ,,
وظل د. بدر الدين نائب حاكم للمصرف المركزي لمدة عشرين عاما , انتقل الى مرحلة مهمة في حياته الى السعودية حتى العام 2016 هو وعائلته خلال احداث لبنان ..
وجوده في الرياض كمستشار سمو الامير طلال بن عبد العزيز المُلقب بامير الانسانية , فتحت له اتصالات مع اميركا واوروبا والعالم الخارجي ….
.
___ _ “عندما اتحدث عن دكتور عبد الامير , تقول زوجته , رفيقة العمل والدرب , ” السِت ليلي ” كما كان يسميها , اتخيل البحر والموج وعطاؤه وعظمته والوانه , ترى اللون الازرق في كل اللوحات التي كان يرسمها ويقدمها لنا هدية في مناسباتنا العائلية ,, الامير كان ينبوع معرفة وعلم وعطاء , انتماءاته العائلية المتينة والوطنية والانسانية والصداقة والعمل من المقدسات ” .
___ _ ” كان ابي وراء دراستي المحاماة في باريس , تضيف ليلو , كبرى بنات الامير التي اسماها على اسم والدتها , كان زوجا وابا حنونا يزورني ويتابعني باستمرار , لا بد ان يحثني , كلما اتصل او راسلني , على قراءة
كتاب جديد فيه فائدة لتخصصي , لم ازل اتذكر فخره واعتزازه عندما نلت شهادتي بتفوق ,, والوقت عنده ثمين يقضيه بين الكتاب والرسم , فالعلم والثقافبة والمعرفة هم كل شيء في حياته “.
___ _ ” عندما كان ابي في الجامعة الاميريكية درس شعر وفلسفة شكسبير , تقول سيليا الابنة الوسطى , ومن احدى رواياته اختار لي هذا الاسم . وقدم لي مجموعة مسرحيات شكسبير باللغة العربية , وربما كان هذا سبب حبي للادب والشعر , كان لا يفارق الكتاب , عودنا منذ الصغر على المطالعة , فيكافأنا بالكتب على نجاحاتنا , لو دخلت علينا في اي وقت لوجدت كل منا على كنبة والكتاب بيده “.
___ _ ” انا تأثرت جدا بابي وحصلت على شهادة الماجستير في الشؤون الدولية تقول الابنة الصغيرة “سيبيل “,, الاسم من اصل يوناني استمده ابي من اشهر لوحات مايكل انجلو , عندما اشتغلت في البنك رضخت لعدة امتحانات في جامعة ” ايذا” فكان ابي يصوّر كل كتاب ليساعدني ويشرح لي ما لا افهمه , كان قريبا يتابعنا اينما وجد ,, ابي لا يحب المظاهر ولا تعني له يأسف على من هم اسرى لها ” .
…… وبعد
دكتور عبد الامير بدر الدين شخصية نبيلة استثنائية , تتمتع بمزايا ندر ان تجتمع في شخص واحد , فالنزاهة المفرطة ابرز صفاته , ومن اسرة كريمة ينطبق عليه قول معروف الرصافي :
“وخير الناس ذو حسب قديم …. أقام لنفسه حسباً جديدا “
.
لقد تفرّع عن الدوحة الشريفة ، والأسرة الكريمة ، عشرات من الأغصان الوافرة المضيئة ، والده السيد صبحي بدر الدين وجده السيد مصطفى من كبار التجار وملاكي الاراضي .. عائلة علماء وشعراء وادباء وفنانين منهم اخيه الشاعر والفنان ياسر , وعمه دكتور علي بدر الدين رجل العلم والسياسة والطبيب البارع مالك بدر الدين .
كان مؤمناً بالله وبدينه دون تعصّب . تزوّج من فتاة من أهل الكتاب وكان مزهوّاً بإيمانه ، دون الحاجة إلى إعلان أو إظهار أو إشهار ,
صديق مقرب جدا للسيد موسى الصدر لدرجة ان طلب منه , دكتور رائد شرف الدين ابن اخت سماحة السيد ونائب الحاكم الحالي , كتابة مقال عنه لينشره في كتابه ……
واستمر بدر الدين في متابعة دراساته وابحاثه المالية الى ان بات مرجعاً اقتصاديا ماليا يتحلى بمصداقية وموضوعية , وعلى الاخص في قطاع النقد
وقد توجت حصاده الرائع , كتابه الصادر في العام 1984 بعنوان :
(مصرف لبنان _البنوك المركزية في المركز المالي والمنطقة الحرة المالية)
والذي اعتبر في مقدمة كتابه , لورد بولوك , رئيس جامعة اوكسفورد , مؤسس كلية سانت كاثرنز ورئيس جامعة اكسفورد بقوله :
_ ” دمار لبنان هو احد المآسي الرئيسية في اواخر القرن العشرين رغما ان العالم كان ينظر الى لبنان منذ وقت قصير فقط كسويسرا الشرق الاوسط وكواحة من التعقل في وسط محيط يسوده عدم الاستقرار ,,,
كيف عمل هذا النظام الرائع في مثل هذه الظروف ؟؟… وكيف كان لبنان يدير ماليته وما كان الدور الذي لعبه مصرف لبنان وهو المؤسسة الوطنية الوحيدة الباقية ؟؟.. لا يوجد مثيل لمصرف لبنان بين جميع المؤسسات المالية في العالم “.
ذلك هو موضوع هذه الدراسات الفريدة التي قام بها د.عبد الامير بدر الدين , تمت كمشروع بحث في جامعة اوكسفورد باشراف سير روي هارود ,, فكان من الاوائل من كتب عن المصرف المركزي والنقاش في الامور النقدية والمصرفية والسياسة المالية , ويُعد مرجعاً غنياً للدارسين والباحثين في النظريات التقدية ” .
وكان امضاء د. بدر الدين عند كل اصدار عملة , ويتابع كل تحويلة كبيرة , فكان البنك المركزي بلبنان هو اول بنك مركزي بالبلاد العربية , يتداولون بالليرة اللبنانية في بورصات الاسهم متل الدولار والفرنك وكانت تسمى في اكتر دول العالم بالعملة الصعبة .
عاش نائب الحاكم ولم ياخذ حقه وكان موقعه كموقع الكرام على مائدة اللئام , وتوفي في تشرين اول سنة 2017 ….. اما بعد وفاته فقد تلقفته ايدي العناية بالسهر والرعاية , فتم تكريمه بذكراه السنوية الاولى لرحيله , احتفالا في ثانوية الصباح سنة 2018 ,,
رثاه وكتب عنه الكثيرون , اشادوا بغياب الدكتور عبد الامير :
كلمة ابن اخته الموقرة , الشيخ عبد الحسين صادق الذي مدح فيه امانته واستقامته , وقريبه الذي اثنى وحمد اخلاقه بقوله ان الذي يتعرف عليه يشعر نفسه بلا اخلاق , والقى اخيه الشاعر ياسر قصيدة ادمت القلوب ، وكلمة العميد د. هشام جابر في جريدة اللواء , ايضا كلمة صديقه الوزير فوزي صلوخ , وتوفيق شامبور المدير السابق في مصرف لبنان …..
وغيرهم ممن استعنتُ انا بهم وباقوالهم لاكتب عن من وقعوا على هوية مشرفة اعتز بها , حملت توقيع العبقري حسن كامل الصباح على اختراعاته ، وتوقيع النائب محمد بك الفضل على العلم ، وتوقيع دكتور عبد الامير بدر الدين على الاقتصاد …
لن يفتقده لبنان «مشروع الدولة» ولن يفتقده أهله ومحبّوه فحسب , بل ستفتقده الاستقامة والأخلاق ، وبه كانت متناهية وتفتقده النزاهة ، وبسلوكه كانت ساطعة ويفتقده العلم الذي وصل به إلى أعلى درجات
. كشهاب شعَّ وانطفأ , تاركا اطيب الاثر , إلى جنة الخلد حيث لا فاسدين ولا مرتشين .
سقى الله تلك الايام التي تركن في خبايا ذكريات ذلك الزمن الجميل في بلدتي ومسقط رأسي النبطية ,, واخيرا يراودني قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، وقد حمل عبد الأمير شيئاً من اسمه وحظي بشرف نسبه :
” قم بعلم ولا تطلب به بدلا
فالناس موتى وأهل العلم أحياء ” …