أخبار النبطية

أمي من النبطية ..


..كذلك شاء القدر وأراد لها أن تكون، من جبلّة أرض تضوّعت بالطيب وترصّعت بالعزّ، من هواء مثقل بالحبّ وتراب مشبع بالطهر، من نافذة فقيرة أبصرت خيوط النور الأولى وكان لقاؤها الأول بالحياة..

من النبطية وإلى النبطية جسر متين موصول بأسرار العشق وآيات الانتماء، لم ترتضي منه وعنه بدلا، كنت أخبر هذا الحنين في حشرجات صوتها وحزن عينيها، في حنينها لأمها وأبيها، لجنبات حيّها، لأيام الطفولة والبراءة والبساطة، لآلة الخياطة، لكل التفاصيل الصغيرة والأمنيات الأثيرة والأحلام التائهة في رحلة عمر موسوم بالقهر والحزن والموت والدّم !..

كنا صغاراً وكانت تأخذ بأيدينا كلّ عام بإصرار إلى النبطية يوم عاشوراء، وكنت أقرأ في صفحات سوادها سطور العزة والكبرياء وألحظ في ملامحها فخارها بانتمائها إلى مدينة حملت اسم الحسين (ع).

أمي من النبطية، وأنا أعرف أمي عصيّة على الظلم، متمرّدة على الضعف، هازئة بالخوف، متعالية على التزلّف والتملق، حرّة، أبية، طليقة الجناحين، محلقة في فضاء رحب نظيف من الانتهازية والوصولية والببغائية والتبعية والصنمية العمياء ..

أمي من النبطية، من مدينة امتشقت حجرها سلاحا، من ساحة مضغت لحم الدبابات، من سواعد استعارت من العباس (ع) سيفاً لتضرب به أعناق الغزاة..

أمي من النبطية، من مدينة الشمس التي لا تسجن، والصوت الذي لا يخنق، والحرّية التي لا تقتل، والكلمة التي لا تمحى..

أمي من النبطية، من بيوت الفقراء، من خبزهم ودمعهم وحبهم، من أغاريدهم البريئة وأناشيدهم الجريئة، من وقع خطاهم وصدى هتافهم وخفق راياتهم المطرزة بالوجع ..

أمي من النبطية وأنا ابن أمي، ابن الفقراء والكادحين، ابن المعاول والمناجل وحصاد الحصادين وأغاني المتعبين، ابن الحريّة التي أرادها علي (ع) هوية وأرادها الحسين (ع) قضية، ابن الآهات المكبوتة والغضب الساكن بين الضلوع والثورة المولودة من رحم الأحزان وبركان الدموع ..

بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو
الجمعة : ٢/ ١٠ / ٢٠١٩

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى